دعوة إلى تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشريعة الموضوعة

ونظل نغني فنطرب ونميل :

فسيروا على سيري فإني ضعيفكم .. وراحلتي بين الرواحل ظالع

وكم أسعدني وكم أفرحني حين علمت أن مقولتين باطلتين كبلتا عقلي حينا من الدهر ما هما إل حديثان موضوعان لا أصل لهما من كلام صاحب الشريعة المطهرة .. ..!!

وكنت كلما استرسلت بالطرب مع المنشد ينشد فسيروا على سيري ..، وقد نطرب لألحان بلا معان ، عدت لنفسي بالسؤال : من صاحب الناقة العجفاء هذا ، الذي يريد أن يحجز الناس كلهم خلف ناقته العرجاء ؟!

وأتذكر قول رسول الله : رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير ، فأدرك حجم الرفق الذي كان يبديه سيدنا رسول الله برفقة دربه الطويل وليس حين يكون في الركب بعض من شقيقات الجنس اللطيف . ويظل يحرجني أكثر وأنا أفكر بما اشتهر على ألسن الناس من قولهم : سيروا على سير أضعفكم ، أو قولهم الضعيف أمير الركب ..!!

ويربك عقلي الضعيف أكثر ، وأنا أفكر كيف تستقيم حياة المسلمين ، والحياة كلها كدح وجهاد ومكابدة ومدافعة ومنافسة ؛ وهم قد جعلوا أضعفهم أميرهم . بينما المنطق أن يكون أميرهم أقواهم ، أن يكون أميرهم " يحياهم " الذي يأخذ الكتاب بقوة ؟! وكيف يستقيم أمر المسلمين ليلحقوا ويسبقوا وهم يسيرون ، كما يوجه القول الثاني ، على سير أضعفهم ..!!

وتتناقض في عقلي الذي يظل يلح وينقب ويلوب ملهوفا بحثا عن حق ، صورة المجتمع الظالع الواهن والمطلب الأسمى الموجه للمسلمين أن يكونوا خير أمة بما يقدمون وما يجهدون !!

وتحتشد في ذهني صور عملية من حياة المسلمين أتذكر مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفها الواصفون : " وإذا مشى مشى تقلعا كأنما يتحدر من صبب " أي كما يتحدر إنسان إذا صادف في طريقه منحدرا ، فهو يقلع قدمه من الأرض قلعا ، ولا يمشي مرحا ولا سحسلة كما يقولون ..

أتذكر سيدنا عمر رضي الله عنه رضي الله عنه وقد رأى رجلا يمشي متماوتا ، زعم من زهد : فيخفقه بالدرة قائلا لا تمت علينا ديننا أماتك الله ..

أتذكر عمر ثانيا بوصيته المعدية : وتمعددوا - تخلقوا بأخلاق معد من العرب - وانزوا على الخيل نزوا ، أي ثبوا على ظهر الحصان وثبا ، واقطعوا الرُكب ، فالفارس البطل لا يحتاج إلى الركاب ، يستعين بها للوصول إلى ظهر فرسه ، ولا يحتاج إليها ، ليثبت نفسه على ظهر هذا الحصان ..

وكأني بصاحب البردة رحمه الله كان هناك حين قال في أصحاب رسول الله الأقوياء الأشداء ، وليس المتماوتين الضعفاء :

كأنهمُ في ظهور الخيل نبت ربا ..من شِدة الحَزم لا من شَدة الحُزم

وأسمع أمنا عائشة وقد رأت رجلا يمشي متماوتا ، فسألت : ما له ، تعني أبه داء أو علة أو عجز!! فقالوا : بل زاهد !!

قالت رضي الله عنها : رحم الله ابن الخطاب فقد كان والله زاهدا حقا ..؛ كان إذا قال أسمع ، وإذا مشى أسرع ، وإذا ضرب في ذات الله أوجع ..!!

لقد شكلت ثقافة الأحاديث الموضوعة والواهية وسرديات الإسرائيليات وزهديات الأعاجم ..التي غزت إسلامنا ومجتمعاتنا منذ القرون الأولى روافد انحراف وإعاقة وجمود في ثقافتنا التراثية كما تعودنا أن نقول .

ولم يقصر علماء السلف في محاولة محاصرة هذه الفيروسات الوبائية ، ولكنها مع الأسف انتشرت وعمت وسيطرت ، كما تنتشر الكرونا اليوم حول العالم ..

إن العنوان الذي اخترته لهذا المقال " تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشريعة الموضوعة " هو نفسه عنوان للكناني من علماء المسلمين " ، ومثله في بابه مجموعة من الكتب تحت عنوان الأحاديث الموضوعة ، ومنها لابن القيم وللسيوطي . وأكثر أهمية من هذا كتاب السخاوي " المقاصد الحسنة في الأحاديث المنتشرة على الألسنة " ومثله كتاب العجلوني " كشف الخفا ومزيل الإلباس فيما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس " وأهمية هذين الكتابين أنهما يعالجان هذا اللون من الأحاديث التي أصبحت بانتشارها نوعا من الثقافة المجتمعية ، يضع السقيم منها الغشاوة على أعين الناس. ويستعمر عقولهم وقلوبهم وسلوكهم ..

ولعل من تمام القول أن نذكر جهد الشيخ الألباني رحمه الله ، الذي استوفى القول في هذه الأحاديث المتسربة إلى عقول المسلمين وقلوبهم في سلسلة الصحيحة والموضوعة..

لا تؤاخذوني لقد أطلت عليكم كثيرا ، وكل الذي كنت أريد قوله هو أنني عشت ردحا من الدهر مأخوذا بما تعودنا أن ما نردده في مثل قولنا " سيروا على سير ضعيفكم " و "الضعيف أمير الركب " وكان فرحي الأكبر يوم علمت أن القولين لا أصل له من كلام نبينا ، صلى الله على نبينا ..لا أصل من كلام الحبيب محمد لقولهم " سيروا على سير ضعيفكم ، ولا أصل من كلام رسول الله لمقولة استعمرت عقولنا " الضعيف أمير الركب "

وهذا لا يمنع أنني سأظل أطرب لمنشد ينشد :

فسيروا على سيري فإني ضعيفكم ..

فالطرب في واد والجد والعمل في واد آخر ..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 871