تحولات في الاقتصاد العالمي

فيروس كورونا هو محفز للتحولات التي كانت قد بدأت بالفعل؛ قد يؤدي التقشف ذو لنتائج العكسية  إلى وضع أسوأ بكثير؛ يجب على المنظمات متعددة الأطراف أن تعزز دعمها للأسواق الناشئة

الأسوأ لم يأتِ بعد، وهو ما ذكرناه الأسبوع الفائت. وهذا ما يظهر في شهر ابريل فهناك 6.61 مليون حالة بطالة تم تسجيلها الأسبوع الماضي في الولايات المتحدة الامريكية وبعض انحاء العالم. في غضون ثلاثة أسابيع، أسفر الضرر الذي لحق بالاقتصاد عن نفس النتائج التي حصلت على مدى الأشهر الثمانية عشر الأولى من أزمة الكساد الأعظم. وهذا ما نتجه إليه بسرعة مذهلة على الأرجح. إن وتيرة الضرر صادمة في البداية، لكنها معقولة تماماً عندما نأخذ في عين الاعتبار طبيعة الأزمة (وهي مشكلة بيولوجية تنفجر تزامناً مع وجود حالة من التباطؤ العالمي) وطبيعة الاقتصاد العالمي الذي يتسم بالترابط بدرجة عالية جداً.

تتموضع جميع اقتصاديات العالم معا في نظام مالي تعتمد فيه التجارة والائتمان على الدولار الأمريكي بشكل أساسي. والمراكز الرئيسية الثلاثة الموجودة حالياً هي (الولايات المتحدة، والصين، والاتحاد الأوروبي)، وتتسم جميعها بخصائص وعيوب جوهرية. خلال أيام الفيروس هذه، تتسلط الأضواء على واحدة من مشاكل الاتحاد الأوروبي أكثر من أي وقت مضى: تزايد التوتر بين الجانبين الشمالي والجنوبي للاتحاد الأوروبي على رد فعل مالي مشترك. تعتبر التطورات الأخيرة بشأن استخدام آلية الاستقرار الأوروبي (ESM) بأنها أنباء جيدة، ولكنها أيضاً بعيدةٌ جداً عن كونها غير مثيرة للجدل. ومن الواضح أن الافتقار إلى التماسك بشأن الاستجابة المالية ــ وعدم وجود دعم للنظام المصرفي غير المستقر لديها ــ واضح جداً. في الصين، تتجه الأنظار نحو الاقتصاد المفرط في الاستدانة والمخاطر التي قد يسببها انخفاض الاستهلاك، مع  وجود زيادة جديدة في الديون غير المنتجة كرد فعل لذلك. أما في الولايات المتحدة، تُظهر هذه الأزمة مرة أخرى أن المؤسسات التي تخلق سياسات اقتصادية هي فاعلة، بصرف النظر عن حدودها. ففي العام 2008، وصل كل من بنك الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة إلى تحقيق قدر هائل من التأثير على النظام العالمي بأسره، وليس على النظام الأميركي وحده. واليوم تطور هذا المسار الى ما هو أكثر من ذلك بكثير، حيث يعمل بنك الاحتياطي الفيدرالي أكثر فأكثر باعتباره البنك المركزي في العالم. لكن السؤال هو كيف يمكن لهذه الكيانات والمؤسسات الأميركية، بنشاطها التقني، أن تتكيف مع استقطاب المجتمع المدني والسياسات الأمريكية.

هذه المشاكل ليست بجديدة، وقد كانت في بؤرة الاهتمام لفترة طويلة. إن كل من الديون غير المنتجة في الصين، وافتقار الاتحاد الأوروبي إلى التكامل والتضامن، والنظام السياسي الأمريكي، جميعها أدت إلى تحديات متزايدة للتنمية العالمية. مع فيروس كوفيد 19، تنكشف جميع هذه القضايا الهيكلية في آن واحد. إن أزمة الفيروس بعيدة كل البعد عن كونها تغير قواعد اللعبة (كما وصفها الكثيرون)، بل هي أقرب لكونها مُسرِّعًا دراماتيكيًا لنفس العمليات التي كانت جارية بالفعل في العالم.

في أوروبا، يمكن أن يؤدي النزاع السياسي بين الدول الأعضاء وما ينتج عن ذلك من حالة من الجمود المستمر والمتعب وغير الملهم إلى اندلاع أزمة ديون سيادية. هذا الوضع سيزيد من المخاطر على الأسواق الناشئة والأسواق الحدودية التي تواجه توقعات تمويل صعبة وستشهد مزيدًا من التدهور إذا أدت المحاور الرئيسية الثلاثة إلى تصعيد الأزمة. يبدو أن ردود الفعل الفردية لدول الاتحاد الأوروبي موجهة أيضًا نحو تعزيز نفس الأنماط التي شهدناها على مر السنين. على سبيل المثال، إن الحافز الذي بدأ في ألمانيا قوي جدًا ولكنه منحرف للغاية تجاه ضمانات الائتمان (على عكس الإنفاق). وبعبارة أخرى، هو موجه بشكل أكبر نحو دعم الصادرات مرة أخرى، بدلاً من الطلب المحلي. على هذا النحو، هناك شك في أن التأثير العام لتحفيز الطلب العالمي سيكون ذا صلة خاصة، مما سيفاقم الاختلالات الألمانية. في إيطاليا، يدفع الفيروس البلاد نحو مستويات قياسية جديدة في نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي. في إسبانيا، كان توسع الديون أسرع بكثير من توسع الناتج المحلي الإجمالي قبل تفشي الفيروس. وحالياً، سيرتفع الدين بنسبة أكبر.

في الصين، بدأت عقلية الوقاية من المخاطر تفقد قوتها مرة أخرى لصالح توسع ائتماني غير منتج، الأمر الذي سيضيف المزيد من عدم اليقين للتوقعات الصينية على المدى المتوسط. في حين كان هناك ارتفاع قوي في إجمالي التمويل الاجتماعي خلال شهر مارس، كان الانخفاض في الإقراض الاستهلاكي في الصين حادًا خلال الأشهر القليلة الماضية، كما هو موضح في ما نشرناه سابقاً. في حين استمر الإقراض الاستهلاكي في الاتجاه الحالي، فإن الإقراض المصرفي، وسندات الشركات، والسندات الحكومية هي التي كانت السبب في النمو المسجل خلال الشهر الماضي.

كان نمو الديون الاستهلاكية بمثابة العمود الفقري للتقدم الصيني في الاستهلاك، الذي كان يرتفع بشكل أسرع من دخل الأسرة. من الطبيعي أن ينخفض الاستهلاك بسبب انخفاض الديون الاستهلاكية - لا سيما لأن دخل الأسرة قد تضرر أيضًا من أزمة فيروس COVID-19.  ذلك ما يؤدي الى المزيد من الضغط على بكين لزيادة الديون غير المنتجة. في نموذج التنمية هذا، لا يزال الدين هو الوقود الرئيسي للاستهلاك. إن ما سيتغير هو موضوع حجب الدين، وليس نموذج التنمية.

في سبيل زيادة اليقين، يبدو أن بنك الشعب الصيني (PBoC) يعود الى سياساته من العام 2008، ويصلح سعر صرف الرنمينبي إلى "حوالي سبعة يوان لكل دولار في المستقبل". ستؤدي هذه الخطوة إلى ربط جديد للدولار الأمريكي بحكم الواقع، مع استخدام بنك الشعب الصيني وسيلة أخلاقية من أجل زيادة الثقة في العملة الصينية. إن انخفاض قيمة اليوان بقوة سيجعل الأمور أسوأ. وإذا كان بنك الشعب الصيني  (PBoC)  يسير بالفعل على هذا المنهج، قد يكون الهدف الرئيسي هو اتباع أسعار الفائدة الأمريكية في مسارها الهبوطي، مع تجنب الهروب الخطير لرأس المال الى الخارج. في الواقع، طالما أن أسعار الفائدة الصينية أعلى من أسعار الفائدة الأمريكية، هناك حافز للحفاظ على رأس المال في الصين، ويتمثل الخطر الرئيسي للمستثمرين في التقلبات الممكنة. مع هذه الخطوة، يقلل بنك الشعب الصيني من التقلبات دون تقليل الشراء الأجنبي لسندات بكين.

لكن ما هي الخطوة التالية بعد أن يتوقف تأثير أزمة فيروس كورونا على الأسواق العالمية؟ من المحتمل جدًا، أن يؤدي التوسع المتزايد للديون اليوم إلى حدوث موجة من التقشف الشديد الذي ينتج عنه نتائج عكسية غدًا في جميع أنحاء العالم، مما يزيد من الألم الذي يشعر به المحتاجون. الخطر هو سحب الدعم المالي في وقت مبكر للغاية، مما يضر الانتعاش الذي سيكون صعبًا، دون أدنى شك.

كما هو معتاد، نحن نشهد بالفعل انخفاضًا في النفقات في تلك البلدان التي تضررت من COVID-19 وصدمة نفطية مزدوجة، وهي حركة دورية نموذجية فعلياً. بشكل عام، يخلق الفيروس سيناريو تنهار فيه الإيرادات الضريبية (بما في ذلك تلك القادمة من الاستهلاك المنخفض للغاية) وينكمش الناتج المحلي الإجمالي. لذلك يجب دعم تلك البلدان، وبالنسبة للبعض منهم، لا يزال الوصول إلى أسواق الديون ممكنًا وغير مكلف - على الأقل بأسعار الفائدة اليوم. ولكن بالنسبة للعديد من البلدان الأخرى، فإن تكلفة التمويل مرتفعة للغاية ولا يمكن تحملها، وهي اليوم أكثر ارتفاعًا. يعد الدعم المقدم من المنظمات متعددة الأطراف أمرًا ضرورياً أكثر من أي وقت مضى من أجل منع التخلف عن السداد في الأسواق الناشئة التي ستؤثر سلبًا على العالم بأسره، في ظل وجهة نظر سياسية واقتصادية. ومن الجدير بالذكر أن مستوى الدعم الحالي هو بعيد جداً عن المستوى المطلوب.

وسوم: العدد 872