كورونا وفوضى التسييس الإعلامي .. مطالبة ثالثة

بالأمس كانت مسئولة في منظمة الصحة العالمية توجه النصيحة لحبيسي بيوتهم من بني الإنسان فتقول : لا تتابعوا الأخبار ..

وهي نصيحة سلبية جميلة ، ولعل الوصفين السلبية والجمال من الجمع بين التناقضات. ودلالة النصيحة أن العالم المعاصر ، ممثلا بدوله ، ومؤسساته الإعلامية ، قد عجز عن وضع استراتيجية إعلامية رصينة ، للتعامل مع الجائحة العالمية ، استراتيجية تتيح للإنسان ، أن يحصل على المعلومة المفيدة ، والموجهة ، والمطمئنة ، التي تراعي الأمن النفسي للبشر ، وتلتزم تقديم الحقائق في إطار من التبشير وليس التنفير . لا تحجب بل تعلّم وتخبّر وتصون ..

في تراثنا القديم حكاية معبرة لرؤيا رآها ملك ، فعرضها على معبر أحمق ، فقال له تعبير هذه الرؤيا يا مولاي : يموت كل أهل بيتك ثم تموت أنت . فانزعج الملك من هذا التعبير ، فأمر بالمعبر فقُتل .

ثم التمس الملك معبرا آخر ، واستمع المعبر لرؤيا الملك ثم قال : أطال الله عمر مولانا ، هذه الرؤيا الجميلة تخبرك أنك أطول أهل بيتك عمرا . فسر الملك بالتعبير وكافأ المعبر على " بشارته "..

المعبران عبرا عن حقيقة واحدة بأسلوبين مختلفين ، وهذا هو الفرق بين المبشر والمنفر ، بين الإعلام المؤنسن والإعلام المتوحش المسيس الذي تديره حكومات ومؤسسات تزعم أنها حريصة على المهنية ، وعلى الحقيقة والحق . ثم تتابعها فتجدها تحاول أن تستفرغ من خلال ما تقدم شحنات من الحقد والكراهية وإثارة الذعر والخوف بين البشر . ومثل المعبر الأول أضع إشارة على مراسلي بعض القنوات ، فأراه لا يختم خبرا إلا برسالة سلبية يعبر فيها عن سخيمة صدر ، أو خبيئة نفس .

تقع مسئولية وضع استراتيجية إعلامية عالمية لمواجهة الجائحة العالمية ، على عاتق بعض المؤسسات الصحية والحقوقية والسياسية الدولية على مستوى العالم أجمع ..ويقع على عاتق الهيئة العامة للأمم المتحدة أن تراقب أداء هذه المؤسسات . وبغض النظر عن المعايير التي تعتمدها مؤسسة مثل الفيس بوك ، فإنه من الإيجابي أن تجد جهة تقرع لك الجرس ، كلما شعرت أنك ملت أو حدت .

يجب أن يقدر هذا المراسل المنفلت من كل عقال ، أو الجهة التي تشغله ، أن على الطرف الآخر من خطوط الإرسال ، قلوب لا تستحق أن ترجم بحجارة الإثارة ، إثارة القلق والرعب والخوف ..

وللمرة الثالثة نكتب نحتاج إلى استراتيجية إنسانية صحية عالمية تلتزم كل معايير الموضوعية والحقيقة والصواب مع الحكمة والبصيرة وحسن التقدير ....

استراتيجية ملتزمة وليست متهورة ، إنسانية غير عدوانية وما أقبح الاستثمار في قلق الإنسان وضعفه في ليل الخوف البهيم ..

المطلوب في الاستراتيجية المأمولة

أولا - التركيز على الأخبار المبشرة والواعدة بقرب الوصول إلى الدواء وإلى اللقاح الواقي ..وأن كل آت قريب ..

ثانيا - التركيز على أرقام المتعافين حول العالم ، وتقديمها على أحاديث الوفيات والمصابين . وفي حقيقة الأمر ، يتم تجاهل هذا الرقم في نشرات الأخبار ، إلى حد كبير، أو اعتبار الحديث عنه مجرد أمر ثانوي لا معنى له !!!

ثالثا - التبشير بذكر وقائع الشفاء لحالات مشجعة ، يبعث شفاؤها ، الأمل في نفوس المتخوفين . وإجراء مقابلات مع هؤلاء المتعافين . وكذا مع مجاميع من الذين مر بهم الوباء مرورا خفيفا ..والتوقف عن تصوير الوباء بصورة " سبدلا " الذي يثير الرعب والذعر في القلوب .

ثالثا - وبدلا من اعتماد التهويل في تقديم الأرقام ، تقديمها في أطرها الحقيقية والدقيقة على قاعدة النسبة والتناسب . فنصف مليون مصاب في الولايات المتحدة ، يقدمون على شكل كسر ، صورته نصف ومخرجه 350 ..وعشرون ألف متوفى ينسبون إلى تعداد المصابين يقدمون على هيئة كسر صورته عشرون ومخرجه خمس مائة !! الحقيقة هي هي ، والانعكاس النفسي عالم آخر .

رابعا - وإذا كنا نتحدث عن عالم يسوسه العلم والعقل فينبغي ، أن يكون لعلماء " علم النفس الجمعي " دورهم في وضع استراتيجية هذا الخطاب الإعلامي ، وحساب انعكاساته ، وارتداداته ، على نفوس جماهير من البشر ، فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة ، فيهم الأم والطفل وفيهم الجدة والجد ..

والخطاب الإعلامي كما نتابعه اليوم على قنوات الإعلام غدا أشبه بنعيق البومان والغربان ..

حتى المعلومة المنفرة الشاذة التي لا تثبت تصبح مادة للإغواء ، ولجذب القراء ، حين يتفنن مريض نفسي بصياغتها بطريقة تفيده زبونا إضافيا أو تكسبه إعجابا على صفحته كما يقولون .

كورونا يطير في الهواء ( كذب ) . كورونا يخترق الجدران ( كذب ) كورونا يفضل البيضان أو السودان أو المؤمنين أو الكفار " كذب " ..

وأسوأ ما في الرائج من السياسات الإعلامية في الحديث عن الجائح العالمية أن لسان المتحدث الإعلامي يلتوي في الحديث عن مصائب البشر على قاعدة : هذا من شيعته وهذا من عدوه ..

مستوى من الانحدار يهوي بإنسانية الإنسان إلى أسفل سافلين . ولا يكاد ينتهي عجب المرء من الإعجاز القرآني في الحديث عن الإنسان المخلوق في أحسن تقويم ثم المردود إلى أسفل سافلين ..

في عصر غرور الإنسان ، وتبجح الإنسان ، وسبق الإنسان إلى كل ما نزعم له نطمح أن نرى رشدا إنسانيا في ساحة يستشعر البشر فيها ضعفهم وضآلتهم وعجزهم ..ومهما عجزوا ، ولو وقتيا ، عن دواء أو عن لقاح ، فلا يجوز أن يعجزوا عن استشعار الحب والإخاء أمام العدو الفاتك التافه الذي يواجهون ..

ندرك أهمية التحذير والترهيب في الخطاب الإعلامي ، لجعل الناس يخافون ويرتدعون ، ولكن كل الجرعات يجب أن تكون بعلم عليم وحكمة حكيم ..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 873