عن منابر اللغو بين يدي رمضان

قال تعالى في وصف المفلحين من المؤمنين :

( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ )

وقال في وصف عباد الرحمن :

( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ، وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا..)

وقال في الثناء على المؤمنين من السابقين واللاحقين في سورة القصص :

( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ )

وقال في وصف الكرامة التي يعيشها السابقون السابقون من أهل الجنة :

( لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا إِلاَّ قِيلا سَلامًا سَلامًا )

وقال في وصف الجنة

( لّا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ..)

وقال ( لّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا )

والآيات في الباب أكثر مما ذكرنا ..

وكلها في ذم اللغو ، ومدح المترفعين عنه ، وإجلال المؤمنين عن أن يكونوا من أهله ، وفي عقود سور " المؤمنون والفرقان " ينظم اللغو مع كبائر من الشرك وشهادة الزور والزنا ونقض العهد ، وينظم الترفع عنه في منظومة الفضائل الكبرى كما في وصف عباد الرحمن ووصف ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ) الذين هم ( ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ ) والذين كلما تلوت رجوت لي ولكم أن نكون من ذلك القليل ..

تتضافر الآيات الكريمة على وصف المؤمنين بالإعراض عن اللغو ، والترفع عن مجالسه ، ومجانبة الخائضين فيه ...

واللغو في حقيقته : ما لايعتد به من الكلام . وهو كلام لا يصدر عن عقل أو فكر . بل هو الكلام فيما لا نفع فيه ، ولا جدوى منه ، والكلام للكلام ، والخوض في الباطل ، وكثرة الهذر . وأن يكون الكلام " لغا " كزقزقة العصافير " أو " شقشقة " كشقشقة البعير . لا مبنى ولا معنى ، ولا دين ولا دنيا ، ولا علم ولا أدب ، لا موعظة ولا تذكرة وقديما قالت العرب :

وبعض القول ليس له عناج ..كمخض الماء ليس له إتاء

ويقصدون قول بلا فائدة كما أن التي تضع الماء في شكوتها فتمخضها لا ترجو منها زبدا ..

وأضاف بعضهم أن من اللغو : القول القبيح أو الفاحش يغلب على أحاديث بعض الناس . فيجهر بما اعتاد أهل الصون ستره . أو يصرح بما اعتادوا الكناية عنه في موطن حاجة يقدرها العقلاء ، ولاسيما على سبيل التنطع والتظاهر ، وإشاعة السوء ، والبذاءة والتنطع بذكر ما جرت العوائد بستره ..

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها . وفي رواية ثم يصبحان يتحدثان . أي يحدث أصحابه ، وتحدث صويحباتها ...

وما زال حديثنا هنا عن اللغو ، الكلام الفارغ بلا معنى ، أو الهذر ، أو الكلام بلا حقيقة ؛ فإذا داخل اللغو والعياذ بالله كبر أو عجب أو ادعاء أو غمز أو لمز أو عيب لآخرين أو غيبة أو نميمية صرنا إلى درك من الكبائر أشد وأنكى ..

وأخطر شيء وقع في الحس المجتمعي العام أن قُصرت الجرائم والكبائر في صورتين أو ثلاث من صور المعاصي الحسية ، وتساهل أهل الحي فيما عداها . ولنلاحظ انعكاس جملة الأوصاف على عقولنا وقلوبنا ، عندما يوصف رجل بأحد هذه لأوصاف : كذاب . متكبر . مغتاب . حاسد . نمام . زان . أو آكل ربا . شارب خمر سارق .. وأعلم وتعلمون ..

بكل تأكيد نحن نعلم من هذه الأمثلة أن المنعكسات الاجتماعية على عقولنا وقلوبنا تختلف اختلافا بينا عن الانعكاسات الشرعية الحقيقية . وأن الأثار الشرعية قد عظمت من شأن بعض أعمال القلوب أكثر مما فعلت مع أعمال الجوارح . وأن النصوص الشرعية قد نفت عن المؤمن أخلاقا ما زلنا نستهين في أمرها ...

 لست زميتا ولا أحب الزماتة ولا أهلها ، ولا يمتنع على مجالس أهل الجد والصدق والقصد شيء من الهزل ترويحا للنفوس ، فإن هذه النفوس تمل. كلمة أو كليمة فاكهة المجلس بعد وجبة دسمة من جد وعلم وقصد ... ( إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ )

 ونعود إلى اللغو ..

ومنابره ، ومجموعاته ، بين يدي رمضان ..عسى ربنا أن يهدينا سواء السبيل . وأعرض في مواطن كثيرة أقول عسى أن يكون في الإعراض بلاغ ، ولكن بعض الناس غلب عليهم أمر يظنونه حلية وزينة ..

وربنا سبحانه وتعالى يقول ( لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ )

والنجوى : هو هذا الذي يدور بيننا على هذه الصفحات حينا ، وفي الخلوات ثبات ثباتٍ أحيانا ..

عودوا ألسنتكم الصيام فصيامها أصعب ، وفطامها أشد من فطام الوليد . والله المستعان وواعظكم يبحث عن واعظ ، ومعلمكم يحتاج إلى تعليم . اللهم ألهمنا رشدنا ، وأعذنا من شرور أنفسنا . واهدنا لأحسن الأفعال والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا أنت ...

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 873