هل الدولة العثمانية نسخة من الدولة البيزنطية؟ (إضاءة)

تهمة الاستنساخ ليست خاصة بالكتب والاختراعات والأفكار فحسب، بل وجدت مكانها في الحضارات أيضًا، وكما زعم المستشرقون أن القوانين الإسلامية مستنسخة من القوانين الرومانية، فقد زعم الغرب ومن حذا حذوهم من العرب المختطفين غربيا، بأن المؤسسات البيزنطية كان لها تأثير قوي على المؤسسات العثمانية بحيث يمكن القول بأن الدولة العثمانية إنما هي نسخة منقولة عن الدولة البيزنطية، هكذا زعموا.

والهدف الأبرز لهذه الادعاءات، هو محاولة إظهار الدولة العثمانية بأنها دولة متخلفة متسلقة قامت على جهود الآخرين ولم تعرف غير القوة العسكرية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فصل الدولة العثمانية عن الحضارة الإسلامية.

وحتى تتم الفائدة ويقف القارئ على حقيقة هذه القضية بصورة مبسطة وسهلة، فإننا نجمل الرد على هذه الفرية من خلال النقاط التالية:

1 – ابتداءً نقول إن الأخذ عن الحضارات والدول في قوانينها وعاداتها وإنجازاتها ليس ممنوعا في الشريعة الإسلامية شرط ألا يخالف النقل والأخذ تعاليم تشريعاتها الدينية، والنبي صلى الله عليه وسلم أخذ عن الدولة الفارسية أحد فنونها وتكتيكاتها العسكرية، وهو مواجهة الحصار بحفر خندق، والتي أشار عليه بها الصحابي سلمان الفارسي الذي كان من تلك البلاد وأسلم، وكذلك أخذ الخليفة عمر بن الخطاب فكرة الديوان من الفرس أيضا، وعلى ذلك إن كانت الدولة العثمانية قد أخذت عن الدولة البيزنطية أو غيرها فلا يعيبها ذلك.

2 – الدولة العثمانية قامت على أساس المنهج الإسلامي منذ عهد مؤسسها الأول، وهذا المنهج كما هو معروف ليس مجرد تصورات اعتقادية أو منظومة أخلاقية قيمية فحسب، وإنما هو منهج يصبغ حياة معتنقيه، ونظام حياة متكامل يشمل جميع مناحي الحياة، ولذلك فإن القوانين العثمانية قائمة على أساس إسلامي، لكنها في الوقت نفسه كان لها قوانين عرفية لا تتعارض مع الدين، كانت نتاجا لاحتياجات المجتمعات العثمانية من ناحية، وإرثا لبعض الدول والحضارات من ناحية أخرى.

جاء في كتاب "العثمانيون في التاريخ والحضارة" لمجموعة من الباحثين تحت إشراف المؤرخ أكمل الدين إحسان أوغلو: "الحقيقة التي لا جدال فيها أنه ليس هناك نظام قانوني جديد ومبتكر ظهر مع ظهور الدولة العثمانية، فالذين أقاموا تلك الدولة ورثوا إلى جانب العديد من الأشياء، رصيدا قانونيا كان معمولا به في الدول الإسلامية...والقانون في الدولة العثمانية تشكل من الشريعة الإسلامية من حيث الأساس ويرجع ذلك إلى أن الدين الإسلامي ليس دين اعتقاد وعبادة فحسب، بل نظام ينتظم كافة جوانب الحياة".

وتحدثت الدراسة عن مكون آخر من مكونات القانون العثماني وهو القانون العرفي بتعبير الاصطلاح العثماني، وهو المعروف بالحياة الإدارية التي تركت الشريعة لها مساحات واسعة بحسب حاجة الناس، كقوانين تنظيم المرور والنظم الإدارية في المؤسسات ونحو ذلك.

3 – الدولة العثمانية باعتبارها جزءًا من جسد الحضارة الإسلامية، فقد تأثرت أكثر ما تأثرت بالدول الإسلامية، فتأثرت منذ فترة ما قبل التأسيس بالدولة السلجوقية التي كان العثمانيون في عهدهم الأول هم القائمين على حماية حدودها مع البيزنطيين بعد أن دخلوا تحت راية السلاجقة، فتأثروا بهم وأخذوا عنهم، وكذلك تأثروا أكثر ما تأثروا بقوانين ونظم الدولة العباسية، وكما يقول المؤرخ أحمد آق كوندوز في كتاب الدولة العثمانية المجهولة: "ترسخت المؤسسات الإدارية للدولة في العهد العباسي، وأثرت المؤسسات الإدارية للدولة العباسية على جميع الدول الإسلامية التي أعقبتها لا سيما الدولة العثمانية، فالديوان الهيمايوني (السلطاني) ومؤسسة قضاة العسكر (قاضي عسكر) ونظام الولايات في الدولة العثمانية، مأخوذة من الدول الإسلامية الأخرى لا سيما الدولة العباسية".

وكغيرها من الدول، أخذت الدولة العثمانية طريقها من الشكل البسيط إلى الشكل المتكامل والمتطور، وإلى جانب ذلك، تأثرت القوانين العثمانية أيضا بقوانين الإمارات التركية في الأناضول حيث اقتبست منها بعض التشكيلات السياسية والإدارية بما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية التي اعتنقها العثمانيون.

4 – الدولة العثمانية نعم أخذت من البيزنطيين لكن بما لا يخالف الشرع الإسلامي أو يعارضه، كاللباس والبريد ونظام الحرس السلطاني، وحتى بعض القوانين الإدارية العثمانية المنسوبة للبيزنطيين ليست كلها حقيقية، فعلى سبيل المثال ما زعموه بأن منصب رئيس الولاة (بكلر بكي) مأخوذ من البيزنطيين، هو قول خطأ، لأنهم أخذوه عن الدولة السلجوقية وكان موجودا كذلك في دولة المماليك أيضا.

وتأسيسا على كل ما سبق نخلص إلى الآتي:

الدولة العثمانية ليست نسخة من البيزنطية وإن أخذت بعض التشكيلات السياسية والإدارية عنها..

النموذج الذي اتبعته الدولة العثمانية هو النموذج الإسلامي الذي شاركت مختلف الدول والشعوب الإسلامية في صناعة حضارته...

أكثر النظم التي تأثرت بها الدولة العثمانية في قوانينها، الدولة السلجوقية والعباسية، كما أخذت عن الإمارات التركية القديمة في الأناضول وغيرها مما لا يخالف الشريعة....

الدين الإسلامي لا يرى حرجا في الأخذ عن غير المسلمين كما فعل الرسول في أخذ فكرة الخندق من الدولة الفارسية، وكما فعل الخليفة عمر في أخذ فكرة الديوان عنها.

وسوم: العدد 886