التخلف ليس قدراً

أنهى استشاري الإدارة الأسترالي جولاته في مصانع ذلك البلد النامي، وحين جلس مع مسئولي الحكومة التي دعته لزيارة مصانعها، حاول أن يكون مهذباً في اختيار ألفاظه، فلم يتهم عمالهم بالكسل والنطاعة، لكنه قال إنه لا يستغرب أن يكون عائدهم الإنتاجي زهيداً، مثل أجورهم الزهيدة، وأنه حين رأى طريقة أداء العمال، شعر أنهم "جنس لا يقيم للوقت وزناً"، وأنه حين تكلم مع بعض المدراء عن ذلك، أخبروه بأنه لا سبيل إلى تغيير عادات التراث الوطني التي تدفع العمال للأداء بتلك الطريقة، وأنهم يتبنون رأي ماكس فيبر الذي يعتقد أن هناك ثقافات أنسب للتنمية الاقتصادية من غيرها، وهو ما يفسر لماذا كان ذلك البلد فقيراً مقارنة بأستراليا في ذلك الوقت.

لم يكن ذلك البلد الذي زاره الخبير الأسترالي قبل عقود سوى اليابان، التي لا يمكن أن يصدق أحد الآن، أن أغلب الخبراء الغربيين كانوا يرون من قبل، أن اليابانيين كسالى وغير قابلين لتحقيق التنمية الاقتصادية، خذ عندك مثلاً المبشر الأمريكي سيدني جوليك الذي يرى في كتابه (تطور اليابان) الصادر عام 1903 أن كثيراً من اليابانيين كسالى ولا يبالون بمرور الزمن أدنى مبالاة، لاحظ أن جوليك لم يكن سائحاً عابراً، بل عاش في اليابان 25 عاماً بدءاً من عام 1888، وبرع في اللغة اليابانية ودرّسها، وحين عاد إلى بلاده اشتهر بحملته للمساواة العرقية بين الأمريكيين الآسيويين وغيرهم، ومع ذلك فقد رأى أدلة وافرة تؤكد الصورة النمطية الشائعة للياباني وقتها بوصفه العاطفي ذو القلب الخفيف المتحرر من كل قلق بشأن المستقبل، الذي يعيش للحاضر دون غيره، وهي ملاحظات تتطابق مع ما قيل ويقال مثلاً عن شعوب كثيرة في أفريقيا وآسيا يرى "الخبراء" حاجتها إلى التعديل الثقافي لكي تتحقق لها التنمية الاقتصادية.

بعد جولة لها في آسيا ما بين عامي 1911 و1912، كتبت بياتريس ويب القيادية في تيار الاشتراكية الفابية البريطانية أنه ما من رغبة في تعليم الناس أن يفكروا في اليابان، ووصفت الكوريين بأنهم "اثنا عشر مليوناً من الهمج القذرين المنحطين النكدين الكسالى معدومي الدين يتنقلون في التراب بثياب بيضاء متربة من أسوأ الأنواع ويعيشون في بيوت طينية قذرة"، وهو ما يعلق عليه الباحث الكوري ها ـ جوون تشانج في كتابه (السامريون الأشرار)، بأنه كلام يشابه ما كان يقوله البريطانيون عن الألمان الذين كان وصفهم النمطي قبل انطلاقتهم الاقتصادية في أواسط القرن التاسع عشر بأنهم "قوم ثقال بلداء"، وكانت كلمة (الكسلان) مرتبطة بالطبيعة الألمانية وقتها، وكان البريطانيون يعتبرون الألمان مفرطين في عاطفيتهم وغير أمناء ويعانون من بطء الفهم، يكتب مثلاً أديب الرحلات في عشرينيات القرن التاسع عشر جون راسل عن الألمان أنهم "قوم ليس لهم نصيب عظيم من دقة الفهم أو سرعة الإحساس... فكم يطول الوقت بالألماني قبل أن تحمله على فهم مغزى شيء جديد عليه، ويصعب أن تثير فيه الحمية على طلبه".

يتخذ تشانج من هذه التعميمات التي تردد بحذافيرها الآن بحق شعوب الدول الفقيرة، مدخلاً للتأكيد على أنه ما من ثقافة صالحة أو غير صالحة للتنمية الاقتصادية، لأن الأمر يتوقف على ما يفعله الناس بالمادة الخام لثقافتهم، ولذلك بوسع مجتمعين يعيشان في مرحلتين مختلفتين من الزمن أو موقعين جغرافيين مختلفين، أن يعملا على نفس الخامة الثقافية (الإسلامية، الكونفوشيوسية، المسيحية) فينتجان أنماطاً سلوكية مختلفة تماماً، لأن سلوكيات الناس ليست حتمية أو قدراً مقدوراً، فكثير من أنماط السلوك السلبية التي شاعت بين اليابانيين والألمان في الماضي، كانت إلى حد كبير نتاج أوضاع اقتصادية مشتركة بين جميع الدول المتخلفة اقتصادياً، لا بين ثقافات بعينها، وهذا هو السبب في أن اليابانيين والألمان في الماضي، كانوا أشبه كثيراً من الناحية الثقافية بشعوب الدول النامية اليوم منهم بيابانيي اليوم وألمانه.

لذلك فإن غش الألمان الذي طالما انتشر في الماضي وظل سمعة ملتصقة بهم، ليس متأصلاً في شخصيتهم الثقافية، فحين يكون بلد ما فقيراً، يلجأ الناس غالباً إلى سبل غير أخلاقية وغير قانونية لكسب لقمة عيشهم، ويضعف تنفيذ القانون، فيفلت الناس بأفعالهم غير القانونية، ويجعل ذلك خرق القانون أكثر قبولاً من الناحية الثقافية، ولذلك فإن كثيراً من ما يوصف بأنه "عادات التراث الوطني غير القابلة للتغيير"، يمكن أن يتغير بتغير الظروف الاقتصادية، لأن الناس ينمون مع التنمية الاقتصادية وينشأ فيهم بسرعة شديدة إحساس "صناعي" بالوقت، ويستشهد الباحث ببلده التي كان الناس فيها قبل نحو عشرين عاماً، يستخدمون تعبير "الوقت الكوري"، للإشارة إلى تأخر الناس عن مواعيدهم ساعة أو اثنتين دون أن يعتذروا عن ذلك، وحين ازداد إيقاع الحياة تنظيماً، اختفى ذلك السلوك واختفى معه التعبير نفسه، مما يجعل الأقرب إلى الصواب القول أن الشعوب تصبح جادة في العمل ومنضبطة وتتحلى بالسمات الثقافية "الصالحة"، بسبب التنمية الاقتصادية وليس العكس.

بعيداً عن الذين قاموا بتغيير آرائهم في الثقافتين الألمانية واليابانية، حين تغيرت أحوال ألمانيا واليابان، وبعيداً عن القدريين الذين يؤمنون بأن الثقافة مستحيلة التغيير، يرى تشانج أنه في مجتمع لا يقوم مسئولوه بتوفير القدر الكافي من الوظائف، لن يكون الوعظ بأهمية العمل الجاد فعالاً في تغيير عادات الناس في العمل، وفي مجتمع قليل الصناعة، لن يؤدي إقناع الناس بخطأ احتقار حرفة الهندسة إلى اختيار الكثير من الشباب دراسة الهندسة والعمل فيها، وفي المجتمعات التي يُساء فيها معاملة العمال، لن يلقى الحث على التعاون إلا آذاناً صماء، إن لم يثر السخرية، لأن تغيير المواقف يحتاج دعماً من تغيرات حقيقية في الأنشطة الاقتصادية والمؤسسات والسياسات.

لذلك يفند الباحث قيام من يطلق عليهم لقب (السامريون الأشرار) بترويج أفكار معلبة عن احتياج أي بلد إلى ثورة ثقافية مسبقة قبل أن يتطور، فقد ثبت أن تأثير التنمية على الثقافة أكبر، لأنها تخلق الثقافة التي تحتاج إليها، وثبت أن تغيير البنية الاقتصادية يغيِّر طريقة حياة الناس وتفاعلهم مع بعضهم، فتتغير طريقة فهمهم للعالم وسلوكهم فيه، ودراسة حالات اليابان وألمانيا وكوريا تثبت أن كثيراً من السمات السلوكية التي يفترض أنها تفسِّر التنمية الاقتصادية كالعمل الجاد واحترام الوقت والتدبير، هي في الحقيقة نتائج وتبعات، لأنه ما من بلد مكتوب عليه التخلف التنموي بسبب ثقافته.

لكن ما لا يذكره تشانج، ربما لأننا نعرفه، وهو أن الإيمان بهذا يتطلب أولاً أن يكون هناك رغبة عامة حقيقية في تغيير الوضع القائم، وهو ما لا يحدث في بلادنا، لأن من يحكمونها، يتفننون في إقناع الناس بأنهم العقبة الوحيدة في طريق التقدم، لأنهم فقراء وضائعون ومتخلفون، وأغلب الناس يصدقون ذلك ليتهربوا من مواجهة أنفسهم بحقيقة أنهم يتعرضون للنهب المنظم من حكامهم، لأن ثمن مواجهة الحقيقة أفدح من أن يقدروا على دفعه، ولذلك يفضلون لعن أنفسهم على مواجهة سارقيهم، ويروجون للاعتقاد بأن التخلف والفقر والفساد قدر، مع أنه اختيار يساهمون في صنعه وتكريسه كل يوم.

...

ـ السامريون الأشرار: الدول الغنية والسياسات الفقيرة وتهديد العالم النامي ـ هاجوون تشانج ـ ترجمة أحمد شافعي ـ الكتب خان.

وسوم: العدد 904