هل كانت فلسطين ستُغتصَب لو كانت محاطة بدول أجنبية لا عربية ؟!

راودني السؤال العنوان منذ بعض الوقت ، واشتدت مراودته بعد ما رأيناه ونراه وسنراه من اندفاع الدول العربية للتطبيع مع إسرائيل في حماسة وبهجة من طال شوقه لهذا التطبيع . حقا لم يكن التقصير العربي في حق فلسطين ، بل التآمر عليها وخيانتها مجهولا  إلا أن إخفاءه وغياب تفاصيله المرعبة عن أكثرية الشعب الفلسطيني والشعوب العربية كانا يقللان مأساويته وهول بشاعته ، ويخلقان مهدئا خاصة للفلسطينيين المعنيين به مباشرة والمحترقين بضراوة ناره ، والمنكوبين في أقدس ما ينكب به شعب ، وهو خسارة وطنه ، ورؤية غرباء أدعياء يقيمون دولتهم في ترابه . ورأيت في إجابتي عن السؤال أن فلسطين ما كانت لتغتصب لو كانت محاطة بدول أجنبية لا عربية ، وترتيبا على هذه الإجابة ما كانت إسرائيل لتوجد ، وتقترب الآن من السيطرة  على المنطقة العربية من مشرقها إلى مغربها في موجات تطبيع متساهل متنازل يصفه المطبعون العرب وإسرائيل بالتاريخي . ومكونات إجابتي أو مفسراتها أن هذه الدول الأجنبية المتخيلة الوجود جدلا ، على خلاف الدول العربية التي حكمتها طوال تاريخها الحديث أنظمة منفصلة عن شعوبها ، وكابتة لهذه الشعوب ، ووائدة لحريتها في إظهار رأيها والجهر بقناعاتها ، ما كانت لتسمح لكيان غريب بأن يطرد شعبا جارا لها من أرضه ، ويدفع بسكانه أو بعضهم لاجئين إليها . وفي أسوأ الأحوال قد تسارع إلى الاستيلاء على هذه الأرض ، ولن تكون في سوء واستئصالية هؤلاء الغرباء في معاملة هذا الشعب . ولنتأمل خلاصة موقف إيران وتركيا من القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني ! هو بحق أشرف وأعطف وأصدق ودا وإنسانية من مواقف كل الدول العربية باستثناء سوريا التي ترى فلسطين جزءا من جغرافيتها الإقليمية الوطنية ، والجزائر بتأثير تجربتها المريرة الدامية مع الاستعمار الفرنسي الذي استهدف على مدى 130 عاما سحق هويتها العربية الإسلامية وجعلها امتدادا جغرافيا وسياديا فرنسيا . تلك التجربة القاسية العاصفة خلقت لدى الجزائريين تعاطفا مع كل المظلومين من قوى العدوان الغربي .  

. ولو كانت فلسطين محاطة بدول أجنبية ما جرؤ قادة المشروع الصهيوني ومن بعدهم دولة إسرائيل على الحديث عن تبادل سكاني بينهم وبين الدول العربية ، فيذهب الفلسطينيون إليها ، ويأتي اليهود منها إلى إسرائيل . وأسوأ من هذا التبادل الباطل زعم الصهاينة ودولتهم أن الفلسطينيين أبناء وأحفاد عمال عرب قدموا من الدول العربية للعمل في المستوطنات اليهودية قبل قيام إسرائيل ، وأن اليهود تسامحوا معهم واستبقوهم في دولتهم ، ومن ثم فلا حقوق لهم من أي نوع ، وطردهم مشروع وقانوني . وفوق ذلك ، استثمرت إسرائيل عداء الأنظمة العربية الكاذب باستثناء مصر قبل اتفاقية سلامها مع إسرائيل ، وسوريا إلى الآن ؛ لبناء قوة عسكرية كبيرة أسهمت أميركا فيها وفي الاقتصاد الإسرائيلي ب 300 مليار دولار حتى الآن ، ووظفت إسرائيل القوة الأميركية بكل أنواعها في جو هذا العداء المزيف في أكثره للارتهان لكل ما تريده ، ويضيق بعض الأميركيين الواعين صدرا بهذا الارتهان الذي يعادل التبعية الغريبة الشاذة من دولة كبيرة جدا إلى دولة صغيرة جدا ، ومن نماذج هذا الضيق ما جاء في المقال الذي  كتبه يونس ألِكسيس منذ أيام في موقع صحيفة ( v t )   الأميركية بعنوان " لنخرج إسرائيل من السياسة الأميركية " ،  وشبه فيه إسرائيل ب  hydra  ، أي الأفعوان الخرافي . والوقائع الصادمة الموغلة في المنكر أن الدول التي طبعت علاقاتها مع إسرائيل تحسن أقصى الإحسان معاملة الإسرائيليين ، وتسيء  أقصى الإساءة معاملة الفلسطينيين .  

                             *** 

مسلسل الارتباط العربي بفلسطين في غالبه سيء ، وأسهم بنصيب كبير في اغتصابها منذ أن دخلتها القوات البريطانية غازية عادية في 1918 إلى اليوم . وللراحل الفلسطيني القُح إميل حبيبي صاحب سرديات " سداسية الأيام الستة " ، و " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل " ، و " اخطية" رأي ، بل خبر ، في سبب دخول الجيوش العربية حرب 1948 ، وخلاصته أنه بطلب من بريطانيا ، ونرجح بالتنسيق مع قادة الصهيونية ، وكان معلوما سلفا أن هذه الجيوش ستهزم حتما لقلة عدد جنودها وسوء تدريبهم وضعف سلاحهم  وجهلهم بالأرض الفلسطينية مقارنة بالقوات الإسرائيلية ، وكان هدف دخولها إظهار إسرائيل الجديدة دولة تدافع عن أرضها غزوا أجنبيا معتديا ، وأنه لا مشكلة في داخلها مع شعب آخر اغتصبت أرضه . ويسيل في مجرى هذا الرأي الخبر ما كتبه الدكتور محمد الفرا في مقاله القيم في موقع " رأي اليوم " عن طلب بريطانيا من الجيوش العربية منع الفلسطينيين من الاشتراك في القتال لتظهر الحرب في صورة الغزو الاجنبي المعتدي على الدولة اليهودية الجديدة التي سمت تلك الحرب حرب الاستقلال تمتينا لهذه الصورة ، استقلال حتى من البريطانيين المنتدبين الذين قامت العصابات التي كانت أساسا لجيشها الذي سمته جيش الدفاع باعتداءات عليهم قتلت فيها جنودا وضباطا وموظفين منهم  أثناء الانتداب غضبا واستياء من محاولات بريطانيا التخفيف من زخم الهجرة اليهودية تهدئة لانتفاضات الفلسطينيين واحتجاجاتهم على هذه الهجرة .  

                                *** 

ارتباط فلسطين العربي جنى عليها وأضر بشعبها طوال القرن الماضي ، ومازال يجني عليه ويضره في القرن الحالي ، ويدخل الآن درجات متنوعة من جناياته وأضراره ، درجات مفتوحة للتصاعد والاتساع . والحل مهما كانت قدرة فاعليته وصلابة مشقته في أن يعول الشعب الفلسطيني على قواه الذاتية في فلسطين وخارجها . الفلسطينيون الآن 14 مليونا ، وأكثر من نصف هذا العدد بحمد الله في فلسطين . نحن أكثر عددا فيها من اليهود ، فلنفعل هذه الكثرة . انتصارنا سيكون في وطننا ، وبقوانا الذاتية التحاما وطنيا ، وتجذرا في كل شبر من أرضنا . وليس مؤدى هذا الرأي أننا نريد الانعزال والانفصال عن امتنا العربية والإسلامية التي لا تقل شعوبها حبا لفلسطين وجاهزية لافتدائها من الفلسطينيين . إنما لا أمل الآن في أي نصرة من شعوب تحكمها قهرا واستبدادا أنظمة من الصنف الرديء السائد ، وليكن صدنا لجنايات وأضرار هذه الأنظمة مقدما على انتظار أي نصرة أو خير منها لن يأتيا حتى يشيب الغراب .  

وسوم: العدد 911