هل يمكن أن يتحرر الأقصى في نهاية هذا القرن الخامس عشر الهجري؟!

إن تحرير أي أرض احتلها قوم معتدون غاصبون ظالمون، لن يكون بالأمر السهل، ولا الهين، وليس مفروشاً بالورود والرياحين، ولا يحصل بالدعوات، ولا بالأمنيات والتمنيات، ولا بقراءة القرآن والأحاديث النبوية الشريفة! 

طالما أن أهلها في البداية، لم يدافعوا عنها دفاعاً مستميتاً، ربما لأنه لم تكن عندهم القوة الكافية، لردع المعتدين، أو لأنهم ما كانوا مستعدين، أو ما كانوا متوقعين هذا الاعتداء الغاشم، حيث فاجأهم بغتة، فأسقط في أيديهم! 

أو لأنهم كانوا مستضعفين، أو أنهم كانوا لاهين عابثين، منهمكين في شهوات الدنيا، أو كانوا متفرقين أو متشرذمين! كما كان حال المسلمين في القرن الخامس الهجري، حينما جاء الصليبيون، بقضهم وقضيضهم، وكان لكل مدينة أو قرية، حاكمها الخاص بها! 

 فاستولوا على بلاد الشام كلها بسرعة البرق، في ذلك الزمن من أنطاكية إلى القدس إلى الكرك في خلال سنة أو سنتين، ونفس الشيء حصل، حينما جاء المغول بقيادة جنكيزخان، ومن بعده نائبه هولاكو، في القرن السابع الهجري، حيث دخلوا البلاد كلها – إلا قليلاً منها – بسهولة بالغة، ولم يجدوا من أهلها أي مقاومة، أو مدافعة، أو حمية لرد الاعتداء الغاشم، بل حتى أن الأغرب من ذلك، كان ما يسمى الخليفة العباسي المستعصم يلهو مع جاريته، وهولاكو على أبواب قصره! 

على كل حال! أيا كانت الأسباب والظروف، التي أدت إلى أن يتغلب المهاجمون على أي بلد، ويسيطروا عليه، ويقهروا أهله، ويستذلوهم، ويفرضوا إرادتهم، وقوتهم عليه، ويحتلوه بشكل كامل، ويصبح أهله عبيداً أذلاء عند المحتَلين! 

ثم إذا أراد أهله بعد ذلك، أن يحرروا بلادهم، ويُخرجوا المحتلين منها، ويسترجعوا سيادتهم عليها، وعزتهم وكرامتهم، ويحصلوا على استقلالهم، فلن يكون هذا، إلا عن طريق قوة السلاح والقتال، والحرب والصراع العنيف، وتقديم التضحيات الغالية، وسفك الدماء الكثيرة، حتى ترتوي الأرض، فتنبت شجرة الحرية الباسقة السامقة، التي تناطح السحاب كما قال شوقي: 

   ولا يبني الممالك كالضحايا    ******      ولا يدني  الحقوق  ولا يحق 

   ففي  القتلى  لأجيال   حياة      ******    وفي الأسرى فدى لهم  وعتق 

أهداف الدول الاستعمارية 

والدول التي تسعى إلى احتلال دول أخرى، لا تفعل ذلك بقصد السياحة والنزهة! بل يكون لها أهداف عديدة، فبعضها يكون هدفها دينياً عقائدياً، كما كان في الحروب الصليبية، التي جاءت إلى بلاد الشام لاستخلاص بيت المقدس من أيدي المسلمين، والسيطرة عليه، واعتقادهم بأنهم هم أولى به، لأنه مهد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، الذي يعتبرونه ربهم، أو ابن ربهم! 

كذلك احتلال اليهود لفلسطين، حيث يؤمنون بأنهم مأمورون من قبل التوراة، بإعادة بناء هيكل سليمان، وغيرها من المعتقدات التوراتية، والأساطير الخرافية! 

وقد يكون هدف الاحتلال اقتصادياً، للسيطرة على ثروات البلد، الذي يريدون احتلاله، أو قد يكون تجارياً للتحكم في ممرات التجارة، كما كان احتلال بريطانيا للهند في منتصف القرن السابع عشر الميلادي، حيث تم تأسيس (شركة الهند الشرقية) ثم بعد ذلك، تحولت إلى احتلال الهند كاملاً، قبل تقسيمها إلى باكستان وبنغلادش وميانمار والنيبال، وقد يكون سياسياً واستراتيجياً، لفرض الهيمنة والنفوذ والقوة على البلاد المحتَلًة، وغيرها من الأسباب الكثيرة.  

طريقة واحدة للتحرير والاستقلال 

وإذا ما استعرضنا تاريخ البشرية، واستلهمنا منه العبر، والعظات، وجدنا أنه لا توجد إلا طريقة واحدة، لتحرير أي بلد من الاحتلال وهي: ثورة، أو حرب التحرير، أو الاستقلال بقوة السلاح، وقد تشاركها في بعض الأحيان، ثورة الأفكار والعقيدة، وهذه يجب أن تسبق الأولى، ويقوم بها علماء، ومفكرون مبدعون، يبثون في نفوس الناس، عقيدة حب الحرية، والعزة، والإباء، والشموخ، والسيادة، والتمرد على الطغيان والاستبداد، وحب الحياة الكريمة العزيزة، والأنفة من المذلة، والخنوع للاستعمار المحتل، وتلهب في نفوس الناس، عشق الموت العزيز الكريم، في سبيل العقيدة، او الحرية، على الحياة الذليلة المهينة، في ظل المحتل الأجنبي. 

وسنذكر بعض الثورات بشكل مختصر وسريع، للدلالة على صحة ما قلناه آنفاً، بأنه لا تحرير بدون ثورة، أو حرب تزلزل كيان المحتل، وتجبره رغماً عن أنفه، صاغراً، مستسلماً، ذليلاً في نهاية المطاف، إلى الرحيل، وتسليم الأرض المغتصبة إلى أصحابها الأصليين. 

1-    الثورة الأمريكية ضد الاحتلال البريطاني التي امتدت من 1765 – 1783 وبعض المصادر تقول: أنها امتدت من 1755- 1776. 

 

لا مشاحة في التواريخ، أيا كانت هي الصحيحة، المهم أنها استمرت عدداً من السنين تقارب عشراً تزيد أو تنقص، ثم رضخت بريطانيا في النهاية، ووقعت وثيقة الاستقلال في 3/9/1783{1}. 

  

وكانت هي الملهمة، والمحرضة، على الثورة الفرنسية، التي انطلقت بعد ست سنوات من استقلال أمريكا، في 14/7/1789 لأن القوات الفرنسية، كانت تساعد القوات الأمريكية ضد الاحتلال البريطاني.  

2-    الثورة الفيتنامية ضد الاحتلال الأمريكي التي استمرت قرابة العشرين سنة أو تزيد، من 1955-1975 وذهب ضحيتها ملايين من الخلائق البشرية، من كل الأطراف الذين شاركوا فيها.  

3-    الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي الذي دام 132 سنة من 1830-1962 وحصلت في خلال فترة الاحتلال، ثورات متعددة، ولكنها لم تحقق نجاحها، وقادها علماء بارزون أشهرهم (البشير الإبراهيمي وعبد الحميد باديس) وكانت آخر الثورات، هي التي استمرت من 1954- 1962 والتي في نهايتها تم تحقيق الاستقلال عن فرنسا، وقدمت الجزائر في خلال فترة الاحتلال، ملايين عديدة من الضحايا.  

4-    الثورة الهندية ضد الاحتلال البريطاني التي استمرت من 1855-1945 بشكل متقطع، علماً بأن الاحتلال البريطاني، استمر حوالي الثلاث قرون، وخاضت الهند في سبيل نيل استقلالها، حرباً ضروساً، أزهقت مئات الآلاف من الضحايا.  

وهكذا نجد أن كل حروب الاستقلال عبر التاريخ، يدفع الأحرار، ثمناً باهظاً، وفاتورة كبيرة من الدماء والأرواح والأموال والممتلكات، لأن الباطل، عنيد لا يرعوي، ولا يمل، والشر مستحكم في النفس البشرية، لا يرتاح، ولا يهنأ له طيب عيش، إذا رأى الخير يعم أي بقعة على وجه الأرض!  

السنن الكونية الثابتة في التحرير 

وبعد هذه المقدمة الطويلة، والتوطئة التوضيحية، والضرورية جداً عن الثورات، وعن حروب التحرير والاستقلال، نأتي إلى الموضوع الأساسي وهو: تحرير الأقصى، الذي يهم كل المسلمين على وجه الأرض، لأنه القبلة الأولى لهم، ولأنه منطلق المعراج إلى السماء السابعة، ولأنه ثالث المساجد المباركة، التي تُشد لها الرحال، لزيارتها، لمضاعفة الأجر في الصلاة فيه، بخمسمائة صلاة عن غيره.  

ولكي يتم تحرير الأقصى، يجب أن يتم سلوك نفس الطريق الذي تم تحريره من يد الصليبيين، لأن قانون التحرير واحد، وثابت، لا يتغير ولا يتبدل عبر تاريخ البشرية، إنه قانون رباني دائم.  

(فَهَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ ٱلۡأَوَّلِينَۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗاۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحۡوِيلًا) فاطر 43.  

وهذا يحتاج إلى قادة عظام، ذوي دين وخلق، ومروءة وشهامة، وقدرة عالية في الصبر والتحمل على الجهاد والقتال، مع صدق وإخلاص لله تعالى، مثل (عماد الدين زنكي بن آقسنقر) الذي ملكه (الخليفة المسترشد) حلب منذ عام 522 هجرية. 

ثم بعد ذلك، تملك الموصل، وبعد تثبيت أركان حكمه في تلك المدينتين، بدأ منذ عام 528 بمهاجمة الفرنج، وتحرير قرية وراء قرية، ومدينة وراء مدينة، والقضاء على الحكام الفاسدين لبعض المناطق، الذين كانوا يتعاونون مع الصليبيين! 

وفي سنة 534 حاصر زنكي دمشق، ليملكها فلم يتمكن منها، بسبب تحصينها من قبل (معين الدين أُنر) فذهب إلى بعلبك وأخذها، وولى عليها أيوب والد صلاح الدين. البداية والنهاية 14/105.  

ثم في سنة 537 ملك زنكي الحديثة. وفي 539 حرر زنكي الرُها من الصليبيين الذين احتلوها بعد إنطاكية في سنة 491، كما تمكن من تحرير حصونٍ عديدة في الجزيرة من الفرنج. 

  

لكن داهمه القدر، وهو في ساحة الوغى، فتم اغتياله من قبل حارسه الصليبي، الذي كان يظهر الإسلام، في سنة 541 ويقول عنه (العماد الكاتب): كان من أحسن الملوك سيرة وشكلاً، وكان شجاعاً مقداماً، حازماً، خضعت له ملوك الأطراف، وكان من أشد الناس غيرة على نساء الرعية، وأجود الملوك معاملة، وأرفقهم بالعامة. البداية والنهاية 14/115. 

وتولى ابنه محمود نور الدين قيادة معارك التحرير، من الفرنجة، وتمكن من الاستيلاء على دمشق في سنة 549 أي بعد خمس عشرة سنة من محاولة أبيه، ثم ظهر إلى الوجود، شاب يافع له نفس صفات نور الدين وأبيه اسمه (يوسف بن أيوب ولقبه صلاح الدين) أرسله نور الدين، إلى مصر مع أبيه وعمه شيركوه، وتمكن من صد بعض الحملات الصليبية، كما تمكن من القضاء على الدولة العبيدية في سنة 567، والتي دامت أكثر من مائتين سنة. 

وفي سنة 569 مات نور الدين بعد جهاد استمر ثمان وعشرين سنة، حرر معظم بلاد الشام، فتولى صلاح الدين قيادة التحرير، حتى تم تحرير الأقصى، في السابع والعشرين من رجب 583 بعد أربع عشرة سنة من وفاة نور الدين.. 

ويظن كل المسلمين تقريباً، أن صلاح الدين هو الذي حرر الأقصى، وهذا غير صحيح البتة، إذ أنه هو فقط قطف ثمرة التحرير! 

أما الفضل الأكبر، فيعود إلى زنكي وابنه محمود، اللذين أمضيا في القتال والجهاد سبع وأربعين سنة، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف ما قام به صلاح الدين، ولولا جهادهما، وقتالهما المستميت، وتحريرهما لمعظم بلاد الشام، لما تمكن صلاح الدين أن يحرر الأقصى! 

فمن الإجحاف بحقهما، ونكران جميلهما، وفضلهما، أن يعزى فضل التحرير كله لصلاح الدين فقط! مع عدم الاستهانة أيضاً بفضله وجهاده. 

متى سيتم تحرير الأقصى؟! 

 

بناءً على السنن الكونية الثابتة، وبناء على الأمر الإلهي (قَٰتِلُوهُمۡ يُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ بِأَيۡدِيكُمۡ وَيُخۡزِهِمۡ وَيَنصُرۡكُمۡ عَلَيۡهِمۡ وَيَشۡفِ صُدُورَ قَوۡمٖ مُّؤۡمِنِينَ) التوبة 14.  

وبناء على أحداث التاريخ، نستطيع أن نقول بكل ثقة ويقين، أن التحرير لن يحصل على الأغلب، في هذا القرن – والأمر لله من قبل ومن بعد، وهو العليم الخبير – للأسباب التالية: 

  1. فقدان العلماء الربانيين، الذين يحرضون على القتال والجهاد باستمرار، ويكونون دائماً،هم في الصفوف الأمامية على الجبهات.
  2. فقدان القائد العسكري المحنك الخبير، المخلص الوفي، ذي الاستراتيجية العسكرية البعيدة المدى، والشجاع المقدام، صاحب الرأي السديد، المستقل، الذي يأنف أن يتلقى الأوامر من أي مخلوق على وجه الأرض.
  3. فقدان الجيش المسلم، المتربي تربية إسلامية عالية، والمخلص والصادق في جهاده في سبيل الله وحده، وليس في سبيل التراب!

وبما أن هذه العناصر الثلاث الأساسية والرئيسة، لبدء حرب التحرير، مفقودة!  فالتحرير لم يبدأ بعد! فكيف سيتم التحرير إذن؟! 

وإذا استغرق التحرير حوالي الستين سنة في الزمن الماضي، حينما كانت الأسلحة متشابهة بين المسلمين والفرنجة، ولم تكن قد ظهرت أمريكا بعد، ولا الماسونية! 

 فكيف الآن والأسلحة مختلفة، بين المسلمين والكافرين، وأعدادهم أكثر، ولا يوجد لدى المسلمين إيمانٌ، يعوض الفرق بالأسلحة والجنود؟! 

وبالرغم من هذا الواقع الميداني المأساوي، الذي يشهد باستحالة حصول التحرير – على الأقل في العقود القريبة القادمة – يتسابق المنجمون، والعرافون، والمشعوذون، ليقولوا لعامة الناس البسطاء: 

إن التحرير سيحصل العام القادم، بل أحدهم ويدعى (ب.ج) يتبجح، ويحدد يوم 9/12/1443 للتحرير! اعتماداً على أرقام حسابية، يستنبطها من القرآن الكريم، وكأن الله جل في علاه، قد أوحى له هذا الأمر؟! وعامة الناس – للأسف - تميل إلى تصديق الخراصين، والأفاكين، والمشعوذين!  

وسوم: العدد 916