عتمة الهَوْل وسلام قايين (قابيل=القاتل)

بيروت مهددة بالعتمة الشاملة، هذا ما أعلنه وزير الطاقة اللبناني ريمون غجر.

لا جديد في الإعلان، فالعتمة لم تفاجئنا، لأننا نعيش في العتمة.

فعمى البصيرة أكثر عتمة من عمى البصر، لكنهما اجتمعا، هذه هي أعجوبتنا اللبنانية. صحيح أن بلادنا صارت مرايا متشظية، لكن الأعمى لا يرى الشظايا.

المطلوب أن لا نرى، وعندما استفاقت بصيرتنا وبَصَرُنا في 17 تشرين، وقال الناس الحقيقة المخبأة خلف حجاب الطوائف والمافيات، جاء العمى.

لم تكن كورونا كافية، لأن اللبنانيين شعروا بأن وباء السلطة التي تحكمهم أشد فتكاً من الوباء.

وعندما شعر الوباء القديم بأن كورونا لا تكفي، انفجرت فينا بيروت في مصادفة لم تأت عن طريق الصُدفة، وامتلأت عيوننا بشظايا الزجاج المغمّس بدمنا.

صار من الصعب علينا أن نحدد اللون الذي نراه كأننا لا نراه، هل صار بياض العمى سواداً؟ أم صار المشهد حليبياً ببياضه الأسود؟

وصف المتنبي بياض ثلج لبنان بالسواد:

«لَبِس الثلوجُ بها عليّ مسالكي/ فكأنها ببياضها سوداء».

ثلج لبنان الأسود ينتشر ويعمّ العالم العربي.

ماذا نرى؟

مشهد التقاتل في «السوبرماركات» على غالون زيت أو علبة حليب للأطفال، يذكرنا برواية البرتغالي خوسيه ساراماغو «العمى» حيث ترى مشاهد زحف العميان داخل المحلات التجارية بحثاً عن طعام يتلمسونه بأيديهم.

أليس من الأفضل أن لا نرى؟

لكن مهلاً، فالعمى ليس وباء رمزياً كما في حال الكناية الروائية التي صنعها خيال الروائي البرتغالي، فنحن لم نفقد البصر بل تم سمل عيوننا كي لا نرى.

هذا هو الفرق بين جماليات الأدب ووحشية التاريخ.

هؤلاء الذين أرادوا لنا أن لا نرى حطامنا الذي صنعوه، لم يستطيعوا أن يحجبوا شعورنا بالعار.

عارنا هنا في بيروت، وعارنا في جزيرة العرب، وعارنا في دمشق، وعارنا في فلسطين.

أغرقونا بالشظايا كي لا نرى، لكننا حين أحسسنا بالعار استيقظت بصيرتنا وأُجبرنا على معايشة الهَوْل.

وهولنا ليس خوفاً كما تقول القواميس، بل ما بعد الخوف الذي يأخذك إلى صمت مصنوع من مزيج الذهول والرعب وعدم القدرة على التصديق واللامبالاة.

يجب أن نتحلى بحكمة أبي العلاء كي نستطيع أن نألف الهول ونتجاوزه:

«وإذا هَوَّلتْ عَليَّ المنايا/ راقَني من وَعيدِها التهويلُ».

فهذا الهول تهويل حسب شاعر المعرّة، لأن الشاعر الأعمى رأى ما لم ترَه عيناه المغمضتان وعيوننا المفتوحة.

هذا الهول اللبناني والعربي تهويل، لكن شدة ازدحام نوائب الدهر جعلتنا عاجزين عن التمييز بين الهول والتهويل.

تعالوا نتوقف عند ثلاث محطات من هذا الهول التهويلي:

المحطة الأولى لبنانية، ومفادها أن رئيس الجمهورية ومعه الفئة الحاكمة قالوا لنا بصريح العبارة إنهم سيبقون في السلطة حتى ولو تحلّل كل شيء. لكن ما فاتهم هو أنهم سيكونون أول من يتحلّل.

المحطة الثانية وهي الأكثر غرائبية. فبينما تغرق سوريا في الإفقار المطلق، نجد أن حليف النظام السوري فلاديمير بوتين يتحول إلى مقاول للقبور. القوات الروسية تطوّق مخيم اليرموك، ليس من أجل مساعدة اللاجئين على العودة إلى بيوتهم المدمرة، بل من أجل بقايا جثة الجاسوس الإسرائيلي ايلي كوهين، الذي أُعدم شنقاً في دمشق في 18 أيار/مايو سنة 1965. فلحوا مقبرة المخيم طولاً وعرضاً، ويواصلون عملهم بلا ملل. بوتين أهدى في نيسان/أبريل 2019 صديقه نتنياهو بقايا جثة الجندي الإسرائيلي زخريا باومل الذي قُتل في معركة السلطان يعقوب سنة 1982. لم يكن الأمر مجرد هدية انتخابية، بل كان أيضاً بداية لمسار تطبيعي تعهدت روسيا بأن تكون مقاوله. جثة ايلي كوهين سوف تكون عربون سلام قايين. هذا هو الاسم الحقيقي لاتفاقيات أبراهام. جد هؤلاء القتلة ليس إبراهيم، فأسطورتهم تجد في المجرم الأول الذي قتل أخاه نموذجها.

قايين يريد سلاماً مع ضحاياه.

في موجة التتبيع/ التطبيع الأولى، اختبأ قايين خلف اسم إبراهيم، أما اليوم وأمام مشروع التتبيع/التطبيع بالجثث، فإن عليه أن يكشف عن اسمه الحقيقي. نحن أمام سلام قايين، والجريمة تحاصرنا.

ولعل إحدى علامات الخزي والعمى، هي استمرار الحفلة التنكرية الثقافية في أبو ظبي، واستمرار المثقفين العرب من روائيات وروائيين في ابتلاع مهانات الجوائز في مرحلة الدعم الخليجي لاقتصاد المستوطنات!

المحطة الثالثة هي الكرنفال الانتخابي في فلسطين كلها.

ففي إسرائيل يتنافس اليمين مع اليمين، وسط محاولات شلّ الصوت الفلسطيني عبر الانقسام الذي غذته إسرائيل بأوهام قدرة القائمة الموحدة على التأثير. وكلنا يعلم أن تأثيرها لا يعدو أن يكون محاولة لتفتيت الصوت الفلسطيني.

أما في مناطق السلطتين، فإن الشكوك المشروعة حول ديموقراطية الانتخابات بدأت تظهر، من محاولة تشكيل قائمة مشتركة بين فتح وحماس، إلى محاولة عزل مروان البرغوثي في سجنه، وصولاً إلى طرد ناصر القدوة من فتح بسبب نواياه بتشكيل قائمة انتخابية!

كل هذا يجري وسط وصول عربدة المستوطنين والجيش الإسرائيلي إلى ذروتها في الأراضي المحتلة.

يهولون على الناس بعتمة الهول.

المشرق العربي منكوب باحتلالين، خارجي وداخلي،يتناغمان في بحثهما عن صفقات الجثث.

قايين يعتقد أن هابيل أو أحفاده عاجزون.

لكن ماذا لو فتح هابيل عينيه فرأى، وقرر أن زمن القتل يجب أن يتوقف؟

وسوم: العدد 920