سمات محتملة لمرحلة قادمة في "الشرق الأوسط"

ثلاث محطات زمنية قادمة خلال الشهر الجاري من المهم التوقف عندها وما يمكن أن ينتج عنها من تأثيرات مباشرة على أزمات مشتعلة لعدة أعوام في منطقة "الشرق الأوسط"، وربما حان الآن موعد إخماد نيرانها!.

المحطة الأولى، هي ما قد تشهده الجولة السادسة من مفاوضات النمسا يوم 10 الشهر الجاري بشأن الملف النووي الإيراني من امكانية إعلان تفاهم أميركي/إيراني على عودة الطرفين بشكل متزامن إلى الإلتزام بمضامين الإتفاق الدولي الذي جرى في العام 2015، والذي انسحبت منه إدارة ترامب وشدّدت العقوبات على إيران مما دفع الحكومة الإيرانية إلى الرد على ذلك  بالخروج عن النسبة المحددة لها في تخصيب اليورانيوم. 

المحطة الثانية، هي جلسة الكنيست الإسرائيلي الممكن حدوثها يوم 9 الشهر من اجل التصويت على الحكومة الائتلافية الجديدة بزعامة رئيس حزب «هناك مستقبل» يائير لبيد، والتي تحتاج إلى 61 صوتاً للفوز بثقة الكنيست، وهو الأمر الذي ممكن تعثره في حال نجاح نتنياهو بالتأثير على عدد من نواب تكتل الائتلاف الجديد المعارض له.

المحطة الزمنية الثالثة المهمة خلال هذا الشهر هي الجولة الخارجية الأولى للرئيس الأميركي بايدن والتي ستشمل المشاركة في قمة G7 (مجموعة السبع) في كورنوال ببريطانيا، والتي ستعقد في الفترة ما بين 11 و13 حزيران/يونيو، ثمّ سوف يسافر بايدن إلى بلجيكا، حيث سيشارك في قمة الناتو في 14 حزيران/يونيو، كما سيلتقي مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لمناقشة مجموعة من القضايا الثنائية والإقليمية. وأثناء وجوده في بروكسل، سيشارك بايدن أيضا في اجتماع قمة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في 15 حزيران/يونيو، ثمّ يسافر الرئيس بايدن بعد ذلك إلى جنيف بسويسرا حيث سيعقد قمة ثنائية مع رئيس الاتحاد الروسي فلاديمير بوتين في 16 حزيران/يونيو.

فما هي العلاقة بين هذه المحطات الزمنية وأزمات "الشرق الأوسط"؟

إنّ الإدارة الأميركية الجديدة، في تقديري، كانت ترغب بالإسراع في العودة للإتفاق الدولي مع إيران لكن أرادت تجنب ما حصل في العام 2015 من تحريض إسرائيلي قاده نتنياهو داخل أميركا وخارجها لمنع حدوث الإتفاق، وفشل في ذلك، إلى حين مجئ إدارة ترامب التي أعطته كل ما يريده في الملفين الإيراني والفلسطيني، وحيث نجح ترامب/نتنياهو في إعطاء الصراع مع إيران أولوية في عموم "الشرق الأوسط"، وفي تهميش الملف الفلسطيني أيضاً.

طبعاً، الظروف اختلفت الآن عما جرى في العام 2015، حيث نتنياهو لم يعد بالقوة السياسية التي كان عليها آنذاك وهو فشل في ثلاث انتخابات بالحصول على غالبية في الكنسيت، وهو متهم بقضايا قانونية تنتظر خروجه من موقع رئاسة الوزراء لمحاسبته امام المحاكم الإسرائيلية، وتأثيره داخل الكونغرس الأميركي ضعف كثيراً بسبب التحولات الجارية في الحزب الديمقراطي وبما كان عليه ترامب ونتنياهو من علاقات عميقة جداً جعلت غضب الأميركيين على ترامب ينسحب على نتنياهو نفسه.

وفي تقديري أيضاً أنّ إدارة بيدن لعبت دوراً في تشجيع بعض الكتل السياسية الإسرائيلية على التوافق الآن لتشكيل الائتلاف المعارض لنتنياهو ولإخراجه من الحياة السياسية، وهو الذي صرّح منذ أيام قليلة بأنّه لو خُيّر بين مراعاة الحليف الأميركي وبين مواجهة الخطر الإيراني لأختار الأمر الثاني، ولذلك اسرعت واشنطن بدعوة وزير الدفاع غانتس لزيارتها لضمان عدم قيام نتنياهو بأي عمل أمني أو عسكري يُعرقل سياسة بيدن الآن تجاه إيران.

ولقد كان صعباً على إدارة بيدن إعلان العودة للإتفاق الدولي مع إيران خلال الجولات الخمس من المفاوضات التي حصلت بالنمسا في ظل وجود نتنياهو بالحكم وامكانية قيامه بأعمال عسكرية أو أمنية في المنطقة تضرّ بالسياسة التي عليها الإدارة الأميركية حالياً في ملفات عديدة. وربما اختيار يوم العاشر من الشهر الجاري ليس عشوائياً فهو اليوم التالي لجلسة الكنيست الإسرائيلي لمنح الثقة للحكومة الجديدة.

على صعيد آخر، احتاجت ادارة بيدن لفترة زمنية تخفف فيها أيضاً من حجم ردود الفعل لدى اعضاء الكونغرس الجمهوريين بالقول انها فاوضت بشكل غير مباشر مع إيران طيلة شهرين وبمشاركة من حلفاء أوروبيين قبل قرار العودة لإتفاقية 2015 وإسقاط العديد من العقوبات التي وضعتها إدارة ترامب.

أمّا في الجانب العربي، فقد مهدت إدارة ترامب لخطوتها المرتقبة مع إيران بالضغط على المملكة السعودية من أجل بدء التفاوض مع الحكومة الإيرانية عبر الوساطة العراقية، والذي انعكس ذلك ايضاً على بدء محادثات أمنية سعودية/سورية تتعلق بالشأنين السوري واللبناني وبمستقبل العلاقات الثنائية وعضوية سوريا في الجامعة العربية. ولم يكن عبثاً أن تعلن إدارة ترامب تقرير المخابرات الأميركية حول قتل جمال خاشجقي دون إرفاق ذلك بأي عقوبات مباشرة على ولي العهد السعودي، وكأنّ مقايضة قد حصلت مع الرياض ترتبط بالتوجهات الجديدة لإدارة بيدن، خاصة في الملفين الإيراني واليمني.

وفي تقديري أيضاً، أنّ إدارة بيدن، بعد إنهاء مشكلة "الملف الإيراني"، ستعمل بالتعاون مع حلفائها الأوروبيين، وبالتنسيق مع روسيا وتركيا على تحقيق تسويات سياسية لعدة أزمات قائمة الآن ومنها الحرب في اليمن وتثبيت الحل السياسي في ليبيا والأسراع في تشكيل حكومة لبنانية جديدة وتخفيف العقوبات على سوريا بانتظار انضاج الظروف لتنفيذ مضامين قرار مجلس الأمن رقم 2254 الصادر في العام 2015 والمتعلق بوقف إطلاق النار والتوصل إلى تسوية سياسية للوضع في سوريا.  

إذن، الرئيس الأميركي بيدن يحتاج إلى الذهاب قوياً للقمم المرتقبة في اواسط هذا الشهر وإلى وجود رؤيا لدى إدارته لمصير ازمات الشرق الأوسط التي زاد من حدتها ما حدث مؤخراً في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وذلك يعني ضرورة إنهاء أزمة الملف النووي الإيراني قبل لقاءات بريطانيا وبلجيكا وسويسرا، عِلماً أنّ الإسترايجية الأميركية الدولية تُركّز الآن على المنافس الصيني وعلى منطقة شرق آسيا، بينما اشتعال الأزمات في "الشرق الأوسط" خلال السنوات الماضية أضرّ بالمصالح الأميركية والأوروبية وزاد من نفوذ خصوم "الغرب" و"الناتو" في أكثر من منطقة.

وربما تراهن واشنطن وحليفها الأوروبي بأنّ عودة الروح للإتفاق مع إيران سيجعل هذا البلد المهم إقتصادياً في سوقه الداخلية والمؤثر سياسياً وأمنياً في محيطه الخارجي، أقل ارتباطاً مع الصين وأكثر اهتماماً بتحسين العلاقات مع الغرب ومما سيجعله حريصاً على الأستقرار في أوضاع المنطقة خلال المرحلة القادمة، خاصة إذا تزامن ذلك مع ضغوط أميركية على المناهضين لإيران في الأقليم، وفي مقدمتهم إسرائيل بدون نتنياهو.

أمّا في الشأن الفلسطيني، فلا يجب في هذه المرحلة القادمة، بناء آمال كبيرة على المتغيرات الممكنة والقمم المرتقبة، فلن يحصل أكثر من الدعوة لإحياء صيغ التفاوض من جديد بين السلطة الفلسطينية ودولة الأحتلال مع تركيز الآن على إعادة إعمار غزّة وتحسين الظروف المعيشية للفلسطينيين في الأراضي المحتلة وتجميد مؤقت للإستيطان، ومع امكانية الدعوة لمؤتمر دولي برعاية "اللجنة الرباعية" للأشراف على المفاوضات الفلسطينية/الإسرائيلية حول مستقبل "حل الدولتين".

ففي القضية الفلسطينية لا تجوز المراهنة على هذه المتغيرات الإقليمية الممكنة، ولا على التفاوض مع إسرائيل بعد 28 سنة على إتفاق أوسلو، ولا على دور "اللجنة الرباعية" التي لم تستطع طيلة اكثر من عقدين حتى وقف الإستيطان، فكيف بإجبار إسرائيل على الأنسحاب من القدس الشرقية والضفة الغربية!! بينما التطرف العنصري الإستيطاني الصهيوني يزداد في المجتمع الإسرائيلي؟!. ولم ينجح باراك أوباما، الذي هو أقلّ الرؤوساء الأميركيين صداقةً مع إسرائيل، من مواجهة نتنياهو أو معاقبته أو في الحد الأدنى الضغط على الحكومة الإسرائيلية لوقف بناء المستوطنات في القدس والضفة! فكيف سيفعل ذلك جوزيف بيدن وهو من الأصدقاء التقليديين لإسرائيل وكان قد اعتزّ بصهيونيته حينما كان عضواً في مجلس الشيوخ؟!.

إنّ الحال العادل للقضية الفسطينية، أو حتى "حل الدولتين"، يحتاج لتحقيقه توفر غالبية في المجتمع الإسرائيلي وفي الحكم تقبل بالأنسحاب من كل أراضي الضفة الغربية ومن القدس الشرقية، وهذا غير متوفر طبعاً الآن. ودور "اللجنة الرباعية" سيكون فاعلاً ومفيداً إذا قررت واشنطن، مدعومة بدعمٍ أوروبي، ممارسة الضغط الفعلي على إسرائيل، ووقف المال والسلاح لها والتعامل معها كما جرى مع الحكومة العنصرية في جنوب أفريقيا، إذا لم تنسحب من الأراضي المحتلة، وهذا غير وارد الآن حتماً!.

ويمكن ممارسة الضغوطات على إسرائيل وواشنطن ودول الغرب إذا قررت الأطراف العربية التي لديها معاهدات أو إتفاقيات مع إسرائيل (بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية) وقف او تجميد هذه المعاهدات والإتفاقيات وكافة اشكال العلاقات والتفاوض مع دولة الأحتلال ما لم تنسحب من كل الأراضي العربية المحتلة، بما فيها الجولان السوري، أي عملياً الألتزام بمبادرة القمة العربية في بيروت بالعام 2002، لكن لا أحد يحلم بذلك الآن!.

ومن المهم الإشارة هنا بأنّ السياسة الأميركية المتبعة تجاه الصراع العربي/الإسرائيلي، منذ حرب العام 1973، تقوم على أربعة عناصر متلازمة ولم يخرج عنها أي رئيس أميركي، وهي:

1- الصلح الثنائي المنفرد مع إسرائيل.

2- المفاوضات المباشرة هي الأسلوب الوحيد المقبول أميركياً، أي لا حروب عسكرية ولا مقاومة مسلّحة.

3- أولوية التطبيع العربي مع إسرائيل وعدم انتظار الحلول النهائية

4- إنفرادية أميركية برعاية التفاوض الثنائي بين إسرائيل وأي طرف عربي وإسقاط مرجعية الأمم المتحدة للقضية الفلسطينية أو قرارات مجلس الأمن الدولي.

***

وهذه الأسس للسياسة الأميركية بشأن الصراع العربي/الإسرائيلي لن تخرج عنها إدارة بيدن طالما أنها ليست مضطرة لذلك وحيثما لا يوجد ضغط دولي أو عربي فاعل يفرض عليها ذلك. وسيبقى الأمل، كل الأمل، بالشعب الفلسطيني الذي أثبت في الأسابيع الماضية قدرته الجبارة على هزّ دولة الأحتلال أمنياً وسياسياً وإقتصادياً، وعلى تأكيد وحدة هذا الشعب من النهر إلى البحر ومن الشمال إلى الجنوب متجاوزاً كل القيادات والخلافات والتوقعات. وهذا ليس بالأمر الجديد على شعب فلسطين وثوراته المتعددة طيلة قرنٍ من الزمن. وهكذا هي سيرة أي احتلال في تاريخ الشعوب كلّها بأنّ الأحتلال ينتهي حصيلة المقاومة دوماً وليس نتيجة التفاوض فقط!.

وسوم: العدد 932