تونس.. خطوات إلى الأمام! على طريق ثورة الربيع العربي الطويلة

قراءةٌ استراتيجيةٌ إيجابية. أو (كتالوج حماية الثورات)

١. بعد توهُّم العرب أن عمر الثورة الحقيقية يتمثل في أيام أو شهور، وفي أحسن الأحوال سنتين أو ثلاثة، وبأن هدفها إسقاط زعيم أو نظام. عاد الحديث ليشيع عن إدراك العرب للمدى الطويل للثورة (جيل كامل على الأقل)، وبانه يتمثل في إسقاط كل عناصر ثقافة الاستبداد والجهل والتقليد السائدة قبل الثورة.

٢. رغم هذا، لاتزال الغالبية تُفاجأ كلما جرت أحداثٌ تؤكد تلك الحقيقة، كما هو الحال مؤخراً في تونس. في حين أن ماجرى أعطاناً دروساً ينبغي أن تُقيّدَ في سجل التجارب القاسية التي لايجب أن نعود للسقوط فيها).

٣. في تونس، تعرّى منهج الشعبوية الذي كان مدخلاً لوصول قيس سعيّد للحكم، وبفرحة وأصوات وتهليل ملايين الثوار في تونس وخارجها (الدرس: لاقبول بالشعبوية ولا لجوء إليها بمنطق الغاية تبرر الوسيلة، أياً كان خطابها المُخادع ومهما دغدغ عواطفنا وآمالنا).

٤. في تونس، تعرّى، للمرة الثالثة، الجيش الذي قيل أنه لايتدخل في السياسة وأنه دافعَ عن الشعب. لأننا لم نتعلم كعرب من التجربة الأولى المماثلة في مصر والثانية في السودان (الدرس: الجيوش العربية هي جيوش أنظمة إلى العظم وفي تركيبتها العضوية "DNA"، لهذا، لايمكن لأي ثورةٍ أن تنجح دون عملية تطهير شاملة لقادة ماقبل الثورة، ثم لعمليات توجيه معنوي كثيفة تُعيد رسم العقيدة العسكرية لكل الضباط والأفراد. هذا مع فتح المجال واسعاً لإدخال أعداد كبيرة من أبناء الثورة في الجيش).

٥. في تونس، تعرّت، مرةً أخرى، كذبة الحفاظ على الغالبية العظمى من جهاز الدولة الحاكم، وخاصةً في مجالات (الإدارة - الإعلام - الاقتصاد - القضاء)، على مستوى القيادات، بعد الثورة وفق مبدأ هو بمثابة (كلمة حق يُراد بها باطل) يقول أن الدولة ليست هي النظام! وإذا كان في تلك المقولة بعض صواب قبل ثورات الربيع العربي،غير أن الأنظمة العربية أدركت بخبث قدرتها على خلق (الدولة العميقة) من خلال تلك المقولة. وبحيث باتت أفضل وأسرع وأضمن وسيلةٍ لنظام ماقبل الثورة في العودة للسلطة. وهذا هو من أكبر الأخطاء التي وقعت فيها تحديداً حركة النهضة. (الدرس: لن تنجح، فضلاً عن أن تستمر، ثورةٌ لاتُحضِّرُ كوادرها لقيادة تلك المجالات بعد الثورة، أو تجد في المجتمع قادةً مؤهلين مستقلين تم إبعادهم عنها في زمن ماقبل الثورة، وهؤلاء موجودون دائماً، لأن من حُسن الحظ أن الأنظمة التسلطية لاتقرب إلا المتزلفين والفاسدين).

٦. في تونس، تعرَّى، مرةً أخرى وأخرى، نفاق الدول المسماة بالـ (الكبرى) و(المتحضرة)! فبعد مرور قرابة ٢٤ ساعة على (الانقلاب) الكامل الأركان في البلاد، لم يصدر تصريح إدانة واحد من تلك الدول التي احتفت بتميز التجربة الديمقراطية، واستقبلت قياداتها بالتصريحات الطنانة، ومنحتهم جوائز عالمية، واشادت بجهودهم في مناسبات لاحصر لها. (الدرس: هذا عالمٌ لايفهم، نهاية المطاف، إلا لغة المصالح والقوة الذاتية التي يمتلكها شعبٌ من الشعوب. وفي غياب القدرة على الحديث بلغة المصالح وامتلاك أدواتها، ومعها تأمين أسباب القوة الذاتية الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتنموية والإعلامية.. لايمكن لثورةٍ أن تنجح وتستمر. فلتكن تلك هي الأولويات، ولا تكن الجوائز والإشادات والاحتفاء العالمي مصدراً للاعتقاد بوجود أي دعمٍ خارجي حقيقي وهي في النهاية أوهام).

٧. في تونس، تعرّت أخطاء، وأحياناً خطايا، حركة النهضة التي كانت تُعتبر أكثر الحركات الإسلامية نُضجاً وتوازناً سياسياً وأيديولوجياً. وهذا في حدِّ ذاته مشكلةٌ كبرى. فإذا كان هذا هو حال أفضل حركة سياسية ذات خلفية إسلامية فإن ذلك دليلٌ على حجم الإشكالية في كل صفوف تلك الحركات (الدرس: ثمة إنجازات لاتُنكر للحركة، وثمة "مؤامرات" خارجية معروفة، لكن ثمة أيضاً خطايا في ممارساتها بدءاً من إصرارها على الدخول في كل جوانب وهياكل ومجالات الساحة السياسية منذ اللحظة الأولى بعد الثورة، رغم نصيحة الخبراء لها بأن تتأني وتدخل بتدرج لأن كوادرها كانت في المنافي والسجون وليس لديهم خبرات كافية لقيادة دولة؛ مروراً "بإصرارها" الساذج على بقاء كل عناصر الدولة العميقة بدعوى التسامح، وإخفاقها في إدارة الصراع السياسي بحنكة مع بقايا العهد البائد، وتقصيرها في ابتكار وإبداع سياسات تتعامل مع هموم الشعب اليومية الحياتية والاقتصادية، وصولاً إلى مشروعها المُخزي لتعويض كوادرها بمئات الملايين من الدولارات عما يُسمى "تضحياتهم قبل الثورة" الآن، وفي الوقت الذي يجوع فيه أبناء الشعب التونسي، ويموتون بسبب الوباء، مع احتمال إفلاس الدولة بشكلٍ كامل! كل هذا هو الذي سمح للشعبوي قيس سعيّد، ومعه الجيش وأركان الدولة العميقة، وأهل الثورة المضادة خارج تونس، بتبرير الانقلاب الراهن على الدستور وعلى الديمقراطية وعلى الثورة. ومع استمرار ثورة الربيع العربي في مداها الطويل، فإن هذا يُعتبر درساً قاسياً للحركات ذات المرجعية الإسلامية تحديداً، وللأحزاب والحركات الأخرى، بألا تتصدى لقيادة الثورات إلا بعد أن تمتلك التأهيل لعمليات قيادة الدول وإدارتها المعقدة، لكيلا تكون العاقبة وبالاً ليس فقط عليها، بل وعلى بلادها وشعبها الذي تزعم الرغبة في تمكينه من الحياة الطيبة).

٨. وأخيراً، في تونس، سيحكم الشعب التونسي على نفسه من خلال رد فعله على (الانقلاب). لايحق لنا أن نتجاهل هنا حجم تعبه الحياتي ودرجة خيبته بالنظام (الديمقراطي) الذي كان يعطيه مشروعيته على أساس أنه (سيُطعمه من جوع ويؤمنه من خوف).. ولن نُعفي هذا النظام نفسه، وفي مقدمته حركة النهضة، من ذنبها فيما آل إليه الحال، وهي التي كان يمكن أن تُري العالم قيمتها الحقيقية لو أن مئات الآلاف نزلت إلى الشوارع سلمياً للدفاع عنها.. لكن رد فعل الشعب التونسي سيبقى، رغم كل هذا، مؤشراً إلى درجة ارتباط الشعوب العربية بقيم الحرية والديمقراطية ودولة القانون، وإيمانها باستمرار التضحية في سبيل الوصول إلى نماذج متقدمة لها، مع الإيمان أن تلك النماذج هي التي ستقوم بواجبها تجاه الشعوب. في حين أن قوى الانقلاب والغدر والتآمر ستكون عليها وبالاً وستودي بها إلى مآلٍ تعتبر فيه يومها أنها كانت الآن بخير!

بدلاً من الغرق في دوائر القلق وممارسة فعل (الحوقلة).. لنفكر بإيجابية في هذه الدروس الثمينة على أنها الإضافةُ الجديدة التي تقدمها تونس اليوم إلى سجل ثورة الربيع العربي الطويلة للأجيال القادمة، فهي التي يمكن أن تدفع تلك الأجيال للاستفادة منها تجربةً تلو الأخرى، بدلاً من الشكوى والنحيب والحسرة. أما تونس نفسها فستكون دوماً تجربةً رائدةً ومتقدمةً على الطريق، وسيكون لائقاً بأهلها أن يُمارسوا مايجعلهم يستحقون تلك المكانة.

وسوم: العدد 939