الحجاب أم العمل: ماذا ستختار المسلمات الأوروبيات؟

في بداية هذا العام أجرت سويسرا استفتاء مهماً أفضى إلى منع النقاب الذي ترتديه بعض المسلمات، وبموجب هذا صارت تغطية الوجه في النطاق العام جريمة.

كانت هذه المسألة مثيرة لجدل كبير، وانقسام بين المؤيدين والرافضين، وتظهر نتيجة التصويت التي جاءت بنسبة 51% أن الغالبية من المواطنين لم تكن ترى في تغطية الوجه خطراً أمنياً أو مهدداً ثقافياً، كما صورت خطابات السياسيين، والأكيد أن الأقليات الثقافية، بل الجالية المسلمة نفسها، لو كانت أبدت قليلاً من الاهتمام لفشل تمرير هذا القانون.

للأسف فإن الأقليات في الغرب كثيراً ما تظهر لامبالاة أمام أي فعل سياسي، قد يعود ذلك لظن كثير من الواصلين الجدد أن صوتهم لن يكون شديد التأثير، وأن رأيهم لن يغير شيئاً، كما هو الوضع في بلدان الجنوب التي أتوا منها، والتي تتحول فيها الانتخابات والاستفتاءات لمجرد مسرح هزلي.

ربما يكون أحد الأسباب التي أدت لانشغال الجالية المسلمة عن هذا الجدل الذي كان يدور في الأروقة السياسية والإعلامية لوقت طويل، قبل أن يأخذ شكل الاستفتاء هو استغراقهم في دولاب الحياة الأوروبية الضاغطة، التي يكون فيها المهاجرون، أو على الأقل الغالب الأعم منهم، محاصرين ما بين مرحلة السعي للحصول على الإقامة الشرعية الدائمة، والمرحلة التي يسمح لهم فيها بالعمل الذي سوف يستهلك بطبعه معظم طاقاتهم، ويشغلهم عن متابعة كل ما يعتبرون أنه لا يعنيهم، بما يشمل موضوعات مثل، مستقبل الأفكار السياسية المتطرفة وتغلغل اليمين الكاره للأجانب في جسد السلطة. بالنسبة لقضية النقاب كان السبب الآخر الذي جعل الأمر يمر من دون حركة اعتراض كبيرة، هو قناعة الكثير من المسلمين بأن لا مشكلة في منعه، إما لأنه، حسب قناعة البعض، ليس مطلوباً، أو لأنه غير واجب. هؤلاء لم يروا حرجاً في أن تتبع سويسرا خطوات فرنسا وبلجيكا والنمسا التي سبقتها في هذا التشريع. بالنسبة للجمعيات والناشطين الذين حاولوا الوقوف ضد تمرير هذا المنع، كان الأمر يتجاوز الجدل الفقهي حول حكم النقاب، فكانت وجهة نظرهم أن مجرد طرح هذا الأمر للاستفتاء، هو حجر على الحريات الشخصية والدينية، كما أن فيه استهدافاً لخيارات التدين وللأقلية المسلمة بشكل عام، حتى إن كان عدد المنقبات لا يكاد يزيد عن الثلاثين سيدة، وفق كثير من الإحصائيات.

لم يكن خطاب تلك الجمعيات مدافعاً عن النقاب، أو داعياً لارتدائه، وإنما كان يهدف للقول إن واجبنا هو أن نحمي خيارات الآخرين، لأن السماح بتجاوز ذلك سيقود لتعريض خياراتنا نحن أيضاً للخطر، ذلك كان أيضاً رأي البرلمان والمجلس التنفيذي للحكومة الفيدرالية السويسرية، الذي كان يرى أن هذا الموضوع أخذ أكبر من حجمه وأنه يمكن الاكتفاء بالطلب من المنقبات الإفصاح عن هوياتهن، إذا دعت الضرورة. الجهات المعنية بالسياحة حذّرت بدورها من تأثير ذلك في صورة سويسرا كقبلة سياحية منفتحة ومتسامحة. من جهة أخرى حذر ناشطون مسلمون من أن يكون حظر النقاب مجرد تمهيد لحظر الحجاب، لم يؤخذ هذا الرأي بجدية وقتها، حيث كان الجميع يعتبر أنه من غير الممكن حظر الحجاب، وأنه لا يمكن مقارنة الحجاب الذي لا يشكل خطراً على أحد، بالنقاب الذي يغطي الوجه ويرمز إلى التشدد، وعدم الرغبة في الاندماج. الذي حدث هو أنه وفي شهر يوليو/تموز الحالي أخرجت محكمة العدل الأوروبية، وهي أعلى هيئة قضائية في الاتحاد الأوروبي، فتوى تجيز لأصحاب العمل إجبار الموظفات على خلع الحجاب، إذا كانوا يرون في هذا مصلحة لهم، هذه الفتوى التي جاءت رداً على شكاوى من فرض بعض المؤسسات الألمانية على موظفاتها العمل بلا حجاب، أو ترك الوظيفة، أتت مؤيدة لأرباب العمل على حساب الموظفين، وبشكل لا يشمل فقط الشركات الكبيرة، أو الوظائف ذات الطبيعة الخاصة وإنما كل الأعمال بما فيها حضانات الأطفال. هذا التأييد الرفيع الذي وضع البرلمان الألماني والحكومة الألمانية وأرباب العمل في مواجهة الموظفات المستضعفات، أغلق الطريق أمام أي محاولة مستقبلية للشكوى حول هذا الموضوع، ليس فقط في ألمانيا، وإنما في جميع دول الاتحاد الأوروبي، التي ستشكل لها هذه الفتوى حافزاً لوضع المسلمات أمام خيار صعب: إما التمسك بالحجاب أو التمسك بالوظيفة.

في أوساط الجاليات المسلمة يتصاعد شعور عام بالتمييز ضدهم، وهو شعور لا تساهم خطب القادة السياسيين المعتدلين في تخفيفه

المسوغ الأبرز لهذا القرار الغريب هو الحفاظ على الحيادية في أماكن العمل، ورفض ظهور أي رمز ديني قد يوضح انحياز الموظفين أو قناعاتهم، لكن هل يتعامل أرباب العمل بالحساسية ذاتها مع موظف أو موظفة يرتدي صليباً مثلاً؟

الإجابة هي لا. لا شيء يمنع ارتداء الصليب أو إحياء أي شعائر أو احتفالات مسيحية، والأمر ليس بالضرورة متشابهاً مع الأديان والعقائد الأخرى، خاصة الإسلام الذي يتم التعامل معه في كثير من الأحيان كمهدد أمني.

في أوساط الجاليات المسلمة يتصاعد شعور عام بالتمييز ضدهم، وهو شعور لا تساهم خطب القادة السياسيين المعتدلين في تخفيفه، حيث تكون ممارسات الواقع هي دائماً أوضح من أي شعار، الجدير بالذكر هو أن التنظيمات المتشددة كثيراً ما تنطلق من هذا التمييز في المجال الاجتماعي، وفي سوق العمل من أجل تجنيد المزيد من الأفراد الذين يشعرون بالقهر والظلم. تابعنا خلال الأعوام السابقة كيف كانت دعاية تنظيم «الدولة الإسلامية»، التي انطلقت من كون أن بلاد الغرب لم تعد صالحة لإقامة المسلمين، ناجحة في استقطاب المئات، بل الآلاف من الشبان الذين كانوا يظنون أن «داعش» هي الخيار الأمثل الذي سيوفر لهم الحرية الدينية والمناخ الإسلامي الذي ينشدون، والذي يصلح لأن يكون بديلاً عن أوضاعهم الحالية التي تضيّق فيها السلطات على المساجد، وتحجر فيها على حرية التعبد واللباس. يبدو هذا شبيهاً بالدعاية الصهيونية التي كانت تدعو لمغادرة اليهود البلدان التي نشأوا فيها بحجة أنهم يعاملون بتمييز ويعيشون كمواطنين من الدرجة الثانية.

إذا لم يكن الوقت تأخر، ربما يجب تنبيه المشرعين الأوروبيين إلى أن مثل هذه الإجراءات لا تساهم في تخفيف التطرف والانعزال، وإنما على العكس هي تزيد الإحساس بالغبن والتهميش، وهذا لن يساهم في تحقيق السلم الاجتماعي المنشود.

ردود الأفعال على هذه الفتوى كانت باردة، حتى بين الأقليات المسلمة، في حين تعالى الصوت الذي كان يقول إن من حق الأوروبيين الحفاظ على هويتهم المسيحية وإن من لا يعجبه هذا فإن بإمكانه العودة إلى بلاده. مشكلة هذا المنطق أنه يصطدم بعدد من العقبات المنطقية أولها مفهوم الديمقراطية والعلمانية نفسه، وثانيها تجاوزه لحقيقة وجود مسلمين أوروبيين أصيلين، وليسوا وافدين أو مهاجرين، حتى نطالبهم بالمغادرة إذا لم يعجبهم الوضع، إضافة طبعاً لأبناء الجيل الثاني أو الثالث الذين لا يمكن تعريفهم إلا على أساس أنهم أوروبيون. ليس من الصعب إخراج فتوى إسلامية متساهلة تبيح للعاملات المسلمات خلع الحجاب أو تغطية رؤوسهن بأي شيء من أجل الالتفاف على هذا القانون، خاصة مع وجود مرجعيات دينية أوروبية مهتمة بإنتاج نسخة من الإسلام لا تتعارض مع التشريعات الأوروبية، لكن المشكلة هي أنه لا يوجد ضمان على أن يكون هذا هو آخر اعتداء على حرية المسلمين وخياراتهم.

وسوم: العدد 939