علاء عبد الفتاح ولسان الاستبداد في مصر

قدّم الناشط المصري علاء عبد الفتاح، خلال جلسة تجديد حبسه عبر إعلانه نيته الانتحار، بسبب ظروف سجنه القاسية، دليلا إضافيا، على طبيعة النظام الاستبدادي الحاكم في مصر، بوصفه نظاماً يقلب المفاهيم ويفرّغها من معانيها، بل يحيلها إلى أضدادها، وسط قمع وترهيب، يعدم أي إمكانية للتميز والفرز وحرية الاختيار.

وعلاء عبد الفتاح، ليس الوحيد في سجون مصر الذي بات على صلة مع فكرة الانتحار، فقد سبقه قبل شهر الناشط السياسي والمدون محمد إبراهيم الشهير بـ»أوكسجين». والأخير لم يكتف بالتفكير، بل حاول فعلا الانتحار في زنزانته في سجن طره جنوبي القاهرة، بسبب التنكيل الذي يتعرض له ومنع الزيارة عنه، وفق منظمات حقوقية.

محاولة «أوكسجين» وأفكار علاء، حول الموت لإنقاذ نفسيهما من عذاب يومي في السجون، تكشف عن تحوّل في مفهوم الموت، من شيء مكروه مرتبط بنهاية حياة البشر، إلى خلاص ونجاة. والتحول هذا يحصل ضمن انعدام تام لحرية الاختيار، فالخيار هنا بين سوط الجلاد، وإيقاف هذا السوط، بقتل الجسد المعذب، أي بين موتين، سريع أو بطيء، ما يعني إفراغ مفهوم الموت من معناه الكلاسيكي، وجعله أداة في يد السلطة تقدمه اقتراحا لمعارضيها، الذين يعانون وراء القضبان. علاقة المعتقل مع الانتحار تكثف علاقته مع السلطة، التي تسجنه لأنه عارضها، الانتحار أو التفكير به، هو الاختيار بين أكثر من ألم، وهذا تحديداً جوهر الاستبداد، الذي يعدم خياراتنا عبر حصرها، بالأسوأ، على نقيض الديمقراطية التي توسع هذه الخيارات، وتمنح فرصاً للبشر، لاختيار الأفضل، بحيث أن المواطن يقترع لهذا الحزب أو ذاك، انطلاقا من برنامج يرى إمكانية في انعكاسه إيجابيا على حياته.

الديكتاتور حين يطلق استراتيجية عن الحقوق، فهو يلغي الأخيرة، إذ يعلبها في خطب ووعود، ومحاولة دعائية لتلميع صورته

قبل أيام على كلام علاء، أطلق السيسي ما سمّي «الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان» ما استدعى مقارنة سريعة تتعلق بأوضاع سجناء الرأي والحصار الذي يعانون منه، لكن الأهم أن الاستراتيجية شكلت إضافة أخرى لعالم المفاهيم المقلوبة الذي يخلقه الاستبداد. فالديكتاتور حين يطلق استراتيجية عن الحقوق، فهو يلغي الأخيرة، إذ يعلبها في خطب وكلمات ووعود، محيلة إياها محاولة دعائية لتلميع صورته، خصوصاً أن الخطوة لم تقترن بأي شيء عملي يتعلق بالقوانين والتشريعات التي باتت تكبل الحياة السياسية. ولم يوفر الرئيس المصري خلال إطلاق الاستراتيجية، ثورة يناير، الذي يمثل علاء عبد الفتاح أحد وجوهها، من عملية قلب المفاهيم، حيث اعتبرها «شهادة وفاة للدولة» معرجاً على سوريا وعدد اللاجئين فيها وخارجها، بسبب «انهيار الدولة». هكذا، تصبح ثورة ضد الاستبداد «شهادة وفاة للدولة» فيما أخرى، تُختصر بقضية لاجئين هجّر معظمها نظام استبدادي قمعي. وربط السيسي مسألة اللاجئين بالإرهاب، مشيرا إلى مخيمات يتم فيها تجنيد «إرهابيين» ذلك على الرغم من أن محاربة الإرهاب التي جعلها النظام المصري، من علل وجوده، غالبا ما تبدت أيضاً كواحدة من عدته لصناعة الكذب. إذ، كشف تقرير لـ»هيومن رايتس واتش» قبل أيام، أن من يقتلون، حسب بيانات الجيش، بعضهم معتقلون، تتم تصفيتهم تحت تسمية «إرهابيين» منتقدة «الإعدامات خارج القانون والقضاء» تحت ذريعة «تبادل إطلاق النار» مع مسلحين، أي أن «الإرهاب» مثل كل شيء في دنيا الاستبداد، تنقلب محاربته من حماية أمن الناس، إلى أداة لتغطية تصفية المعتقلين. في مرحلة سابقة، كان السيسي، يرتجل كلاما وخطبا، غير مفهومة تثير الضحك والسخرية، ما يؤشر، ربما، إلى أن لسان الاستبداد، كان يتلعثم في فهم مصر، وبناء علاقة إخضاع لشعبها. الآن، بان للاستبداد لسان، تجاوز التلعثم، لسان يقلب المفاهيم ويفرغها من معانيها، فيصبح الموت، خلاصا من التعذيب بدل أن يكون شيئا مكروهاً وفقداً وغياباً. وتكون حقوق الإنسان، وعوداً وخطباً معلبة، بدل أن تكون تشريعات وقوانين، وثورة يناير «شهادة وفاة للدولة» بدل أن تكون شرعية سياسية جديدة تقطع مع الديكتاتورية والعسكر. و»محاربة الإرهاب» تصفية للمعتقلين، بدل أن تكون استراتيجية شاملة تتوازى مع فتح المجال العام وإطلاق الحريات وتنمية متوازنة تشكل الأطراف وتجفف حواضن التطرف.

والحال فإن المصريين لا يملكون ترف الاختيار، بين المفاهيم الحقيقية وتلك الزائفة التي يخلقها الاستبداد، فالقبضة الأمنية والقمع والاعتقالات وترهيب الناس عبر الإعلام الموجه مخابراتيا، تجعل حرية الاختيار عندهم معدومة، تماما مثل علاء عبد الفتاح، المخيّر بين سوط جلاده وإنهاء حياته، بعد أن تجرأ على مواجهة عالم الكذب الذي صنعه الديكتاتور، ليبقى ويتمدد.

وسوم: العدد 946