أبو ظبي… رأس حربة الرجعية الإقليمية

شكّلت المملكة السعودية منذ منتصف القرن العشرين وحتى العقد الأول من القرن الراهن قلعة الرجعية العربية الرئيسية. وكان ذلك متناسباً مع حجم المملكة من حيث مساحتها وموقعها الجغرافي في قلب الجزيرة العربية وإشرافها على الأماكن المقدسة وتعدادها السكاني وبالطبع ثروتها النفطية. وقد ارتبط ذلك الدور ارتباطاً وثيقاً بالعلاقة الاستراتيجية التي نسجتها المملكة مع الولايات المتحدة الأمريكية عند نهاية الحرب العالمية الثانية، بحيث كانت المملكة حليف واشنطن الرئيسي في منطقة الشرق الأوسط خلال حقبة الحرب الباردة، 

هذا وقد شهدت المنطقة تحوّلاً خطيراً خلال السنوات الأخيرة، لم يحز بعد على ما يستحق من اهتمام وتحليل. يقوم هذا التحوّل على صعود دور إمارة أبو ظبي ووليّ عهدها، محمد بن زايد، في زعامة الرجعية العربية. فيكفي النظر إلى الدور الخطير الذي تلعبه أبو ظبي في شتى ساحات المنطقة الساخنة، في اليمن والسودان وليبيا وتونس وسوريا، بدون أن ننسى الساحة الفلسطينية واحتضان أبو ظبي لمحمد دحلان، ناهيكم بالطبع من العلاقة الاستراتيجية التي حاكتها الإمارة مع الدولة الصهيونية والتي باتت الآن مكشوفة إلى حد الوقاحة.

وصفنا قبل سنة تحديداً على هذه الصفحات ما أسميناه «الحلف الثلاثي الرجعي» مكوّناً من أبو ظبي ومصر السيسي وروسيا («الحلف الثلاثي الرجعي: موسكو وأبو ظبي والقاهرة» 17/11/2020). وقد اتّضح مع الزمن دور أبو ظبي الريادي في هذا التحالف، الذي تؤازره المملكة السعودية أحياناً بدون أن تشارك على الدوام في نشاطاته، مثلما هي الحال في ليبيا على سبيل المثال، ومثلما بيّنه بقاء الرياض حتى الآن خارج دائرة التطبيع، بل التحالف المكشوف، مع إسرائيل الذي تخوض فيه أبو ظبي والقاهرة، وبقاء الرياض كذلك خارج دائرة التطبيع مع نظام آل الأسد، آخر حلقات هجمة أبو ظبي الإقليمية الرجعية. فما هي الظروف الدولية والإقليمية التي تكمن وراء هذا التحوّل المهم، فضلاً عن الطموح الشخصي لوليّ عهد أبو ظبي وموقفه الشخصي الغارق في الرجعية؟

دعمت أبو ظبي بالتعاون مع روسيا حملة دونالد ترامب الرئاسية في عام 2016 بحيث خوّل ترامب إليها إدارة سياسته الإقليمية بعد فوزه

أهم الظروف المُشار إليها هو بالتأكيد خروج العالم من حقبة الحرب الباردة والتغيّرات التي طرأت على موقف الولايات المتحدة، لاسيما إثر إخفاق مشروعها في الهيمنة الكاملة على منطقة الشرق الأوسط من خلال الحرب التي شنّتها على العراق في عام 1991، عند نهاية الحرب الباردة، ومن ثم احتلالها لبلاد ما بين النهرين الذي انتهى بفشل ذريع إذ اضطرّت إلى الانسحاب منها وقد باتت حكومتها خاضعة للوصاية الإيرانية. تنضاف إلى هذه المعطيات السيرورة الثورية التي اندلعت في المنطقة العربية قبل عشر سنوات والتي كانت بالطبع مصدر ذعر شديد لدى القوى المحافظة الإقليمية.

وما أذعر هذه القوى بصورة رئيسية هو أن واشنطن تحت رئاسة باراك أوباما آثرت أن تجاري «الربيع العربي» حفظاً لمصالحها وتماشياً مع ادعاءاتها الأيديولوجية الديمقراطية، وقد اتكلت في ذلك على وساطة دولة قطر.

امتعضت من ذلك كافة أطراف القطب العربي المحافظ، بيد أن المملكة السعودية استمرت بمسايرة واشنطن، لاسيما بسبب ذعرها الأكبر من جارتها الإيرانية. أما أبو ظبي فليس لديها هاجس إيران بمثل ما لدى المملكة، بل غدت الانتفاضات الإقليمية هاجس بن زايد الرئيسي. كما أن أبو ظبي أقل ارتهاناً بأمريكا بكثير مما هي المملكة. لذلك رأينا الإمارة تبدأ بنسج علاقة وطيدة مع موسكو، التي باتت تحتل بامتياز مكانة القوة العظمى المدافعة عن النظام العربي القديم بشتى مكوناته، مثلما أثبتت أولاً من خلال تدخلها لإنقاذ نظام آل الأسد. بل أخذت أبو ظبي تتدخّل في السياسة الأمريكية الداخلية، بما يشبه تدخّل بنيامين نتنياهو الذي تعدّى كل ما فعلته الحكومات الصهيونية قبله. فقد دعمت أبو ظبي بالتعاون مع روسيا حملة دونالد ترامب الرئاسية في عام 2016، بحيث خوّل ترامب إليها إدارة سياسته الإقليمية بعد فوزه، وقد جعلته يحثّ الرياض على مقاطعة قطر التي بدأت بعد أيام من زيارته للمملكة، أولى زياراته الخارجية بعد توليه الرئاسة. أما وقد خسر ترامب معركة تجديد رئاسته، فقد توطّدت العلاقة بين أبو ظبي وموسكو، التي كانت أواصرها قد اشتدت من خلال تدخلهما المشترك مع القاهرة في الساحة الليبية. ونرى اليوم تحوّل الحلف الثلاثي المذكور أعلاه إلى حلف رباعي مع انضمام الدولة الصهيونية إليه، وقد جعل ذلك ممكناً انتقال أبو ظبي إلى علاقة سافرة مع هذه الأخيرة. ومن المرجّح أن تشهد سوريا في الأشهر القادمة تبعات ذاك التحول، لاسيما في ما يتعلق بالدورين الإيراني والتركي على أرضها.

وسوم: العدد 955