معاداتنا للعلم إلى أين ستقودنا ؟

معضلتنا الكبرى وعاهتنا المستديمة والتي تجرنا إلى الوراء بالقوة هي في أحد أوجهها أننا بيئة حاضنة للفشل ولا تنتج سواه بيئة غير قادرة على انتاج النجاح وهذا الأمر ليس وليد اليوم أو الأمس القريب وإنما معضلتنا بدأت يوم هجرنا العلم وأجبرناه على الاستقالة ونصّبنا مكانه الجهل المتعدد الأبعاد القاطرة التي تجر مجتمعاتنا

وهنا علينا أن نطرح سؤالا بسيطا لماذا أنجز الأندلسيون وهم عرب مثلنا ومسلمون مثلنا تلك المعجزات هناك في إيبيريا ولكنهم لمّا أجبروا على ترك وطنهم وانتقلوا إلى الضفة الجنوبية أو الشرقية للمتوسط عجزوا على أن يبنوا مثيلا لها البعض يرجعه إلى قلة الامكانات المادية وهنا تكمن المعضلة لماذا فشلنا طول تلك القرون في انتاج نموذج قادر على انتاج الثروة بصورة متجددة ؟ ثروة تمكننا من تجاوز النقائص التي يحتاجها اقتصادنا ومجتمعنا كما فعل اليابان الذي تجاوز معضلة ندرة الموارد بصورة مدهشة تجعل من حجتنا السابقة حجة مفلسة ومن المعيب الاستشهاد بها ولكن ما فعله اليابان ليس محيرا لأن سرّ ذلك معلوم لنا جميعا إنه مجتمع يقدّس العلم الذي هو مفتاح تغيير العالم كما قال نلسون مانديلا

أمّا نحن فبيئة تعشق انتاج الفشل ولا تنتج سواه وينطبق علينا ما قاله أحمد زويل من أن " الغرب ليسوا عباقرة ونحن لسنا أغبياء هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح، ونحن نحارب الناجح حتى يفشل " إننا يا سادة نخاف من النجاح ومن الآخر الناجح لأننا نرى فيه عدوا لا فرصة لنتقدم صوب الأفضل فرصة لانتشالنا من مستنقع التخلف الذي نغرق فيه كل يوم أكثر إنه لأمر معيب ومخجل أن يبقى مجتمع كالمجتمع الجزائري سجين دائرة التخلف المغلقة مجتمع من المفروض أن طلب العلم فيه مقدس وفريضة على كل فرد من أفراده ذكرا كان أو أنثى من المهد إلى اللحد

إننا لا زلنا نرى في الآخر الذي هو أخونا وشريكنا في الوطن وكنتيجة للجهل أو لعدم الشعور بالأمان الاقتصادي مجرد عدو يتوجب سحقه لأن الميدان لا يتسع لنا جميعا وفي سحقه نضيع على أنفسنا فرصة للتقدم صوب الأمام ولكنها فرصة ضاعت ولا أمل لنا في استدراكها مرة أخرى ذلك أنها عادت في تعداد أهل القبور وطالما لم نتخلص من هذه الإعاقة وهذا الأسلوب البائس في التفكير ونتجاوز هذه القناعات القاتلة فإننا سنبقى نراوح مكاننا وإلى الأبد

إننا كلنا ندعي بأننا مع تشجيع الكفاءات ومع اعطاء الشباب الكفء - لا صاحب الشهادة المزيفة والكفاءة المغشوشة - ومنحه فرصة تصدّر المشهد لأنه هو وحده القادر على إيصالنا إلى بر الأمان كلام جميل نتغنى به ونقوله في العلن ولكننا نحاربه في السر ونقذف به صوب منافى العالم السفلي حيث لا أمل له في رؤية الشمس مجددا إننا نتقرب ممن هم قادرون على اخراجنا من مأزقنا المؤلم لنجمّل بهم مجالسنا وللصور التذكارية نسمح لهم بالحديث حسب ما يظهرنا متنورين ومتفتحين على دروب التقدم والرقي ولكن أن نسمح لهم بأخذ زمام المبادرة واتخاذ القرار فذلك أمر فيه نظر وعادة ما نقذف بهم صوب الهامش الذي جاؤوا منه مباشرة بعد انتهاء تلك الحفلات الخاصة بتجميل صورنا في عيون الرأي العام ومن المحال أن نسمح للكفاءة الحقة أن تصبح صاحبة القرار فذلك هو الطوطم والمحرم الأكبر الذي لا يمكن تجاوزه فنبقى دائما نتقهقر إلى الوراء

في بعض الأحيان نستضيف عالما لأغراض دعائية تجميلية أو يأتي هو إلى بلداننا لحسّه الوطني الذي لا يترك له من خيار سوى العودة لأرض الوطن ليساهم في انتشاله من تخلفه وفقره ولكن ما نضعه من عراقيل في وجهه يجعله يحزم أمتعته ويقفل راجعا أو يرضى بوضعه الجديد ذلك أنه لا يمكنه الافلات من براثن المصيدة التي وقع فيها وقد يكون الوافد إلينا مدفوعا بالحس الانساني أو بمعتقده كما هو حال عالم الرياضيات الأمريكي جفري لانغ الذي انتقل إلى احدى البلدان العربية لمساعدتها على النهوض ولكنه قفل راجعا لوطنه لأن البيئة التي انتقل إليها تعادي المعرفة وتمقت العلم وهذا ما لا يفعله الكيان الصهيوني الغاصب الذي اقتنع بأن المعرفة قوة واستثمر فيها فاتسعت الهوة بيننا وبينه وعادت تقاس بالسنوات الضوئية ولكننا إن صدقت النية قادرون على درمها في أقل من جيل واحد

عجبا لنا كيف نفكر وسحقا لمنظومة القيم التي نحتكم إليها رجل واحد يمكنه أن يحي أمة ونحن ندفن بالحياة رجالا قادرين على أن يرسلوننا إلى ما وراء الشمس أو يجعلوننا نسافر بين النجوم لا أن يحققوا لنا التقدم الاقتصادي والرفاه الاجتماعي أو أن يجعلوا المعارف تتفجر أنهارا لتجعل كل ما هو من حولنا جنانا وفراديسا ولكننا وبأنانيتنا المقيتة والقاتلة نقدس الجهل الذي يجرنا صوب حتفنا والهاوية

ليس جيفري لانغ وحده من فرّ بجلده وهو يلعن هذه المنظومة الفكرية وهذا النسق الاجتماعي السيء السمعة والصيت بل فعلها قبله وبمئات السنين بعض الأندلسيين ممن فروا أو طردوا من ديارهم عقب سقوط غرناطة 1492 ولكنهم فضلوا العودة إلى إسبانيا والبرتغال على البقاء في بلدان المغرب العربي أو في تركيا وبلاد الشام وفضلوا التنصر أو التظاهر بذلك وبغض النظر عن أخلاقية ما فعلوه فإن بعضهم عاش بعد عودته عيشة العبيد زيادة على هذا ادانة الفقهاء لخيارهم وتحريمه ومع ذلك أصرّوا على موقفهم لأنهم أبناء القيم الأخرى التي لم يجدوها في بلدان العرب والمسلمين وهي من حسمت قرارهم وفصلت في الأمر لأن العصر كان عصر نهضة هناك وهم عايشوها لسنين أو عقود وتشبعوا بها أمّا عندنا فعصر انحطاط هذا ما جعلهم يفضلون العودة رغم عواقب هذه المغامرة التي لا يمكن التنبؤ بنتائجها وهذا عين ما يفعله علماؤنا اليوم الهروب ولا شيء غير الهروب لأننا بجهلنا خسرناهم فضيعنا على أنفسنا فرصة الوصول إلى ما وصلت إليه الأمم التي تحترم نفسها وشعوبها وتاريخها

هجرة العقول تفشت لأننا فشلنا - والمسؤولية نتحملها جميعا – في انتاج مناخ يحرض على الابداع في حين أن هذا الأخير كان موجودا إبان الحكم العربي لإبيريا ثم تبنته أوروبا وتوابعها واحتضته فبدا كأنه ملكية خاصة لها ووقفا عليها أما نحن فبدا غريبا عنا في حين أننا نحن هم واضعوه وهؤلاء المواركة العائدون أو الأدمغة المهاجرة بيومنا هذا الكل عائد وراحل إلى ذاته التي يفتقدها في وطنه الذي أصبح غريبا عنه وهو غريب فيه الكل فار من هذا الجو العقيم والذي لا ينتج سوى الجدب والتصحر جو خانق كصخرة سيزيف الجاثمة على الصدور ولا سبيل للانعتاق منها سوى عبر اللحاق بالضفاف الأخرى   

نعود ونقول بأننا وكما قلنا أعلاه لا نرى في مواطنينا شركاء لنا في الوطن وفي الربح والخسارة وفي تحمل مسؤولية ما نحن فيه من تخلف وجهل وفقر بل هم في نظرنا مجرد عدو يحول بيننا أو بين أبنائنا في الوصول إلى منابع الثروة أو إلى مصاف الطبقات المحظوظة والنافذة ولهذا فنحن نقدس ثقافة الاقصاء وسلب كل ما هو ليس لنا لنتمتع به وأبناؤنا أننا متأكدون من أنه لئن لم نسطو عليه نحن فعل ذلك غيرنا نفعل هذا على أن نبادر لإنتاج الثروة المتجددة وبهذا فنحن نفضل أكل رؤوس أموالنا فنسلك طريق الخراب الذي لا تستثني جحيمه أحدا منا

جحيما نحن من أقمنا بنيانه ثم نسعى جاهدين للخروج أو الفرار من هذا الوطن الذي نقول بأنه ما عاد وطننا وبأنه ما عاد الأمّ الرؤوم وإنما زوجه الأب القاسية المعذبة لمن هم تحت وصايتها من أبناء زوجها القصّر لا يا سادة ليس الوطن من عاد زوجة الأب القاسية القلب وإنما نحن من أصبحنا نعادى بعضنا البعض يدنا على كل واحد منا ويد كل واحد منا علينا جميعا كما جاء في التوراة وهذا ما زرع روح الفردية القاتلة والتي هي طريق انتحارنا جميعا

إننا لسنا بحاجة إلى معجزة لنصل إلى مصاف ألمانيا وكوريا الجنوبية وإنما نحن محتاجون إلى التخلص من عجرفتنا وأنانيتنا القاتلة والتي صوّرت لنا بأننا أناس فوق الناس من جنس الآلهة أو أنصاف الآلهة ولا شيء يعلو فقط تقديسنا لذواتنا ولذلك فنحن فقط من نستحق الحياة الكريمة دون بقية خلق الله إننا بحاجة إلى التخلي عن هذا الهراء وأن نكون مثلهم هناك في ألمانيا واليابان نتحدث قليلا ونعمل كثيرا وأن يكون القانون فوق الجميع وأن نقتنع بأن الآخر شريك لا عدو لنا فأسباب نجاحي موجودة في تجارب الآخر الناجحة والذي أمرني القرآن الكريم بأن أتعارف عليه وأتعرف عليها وأن أبني بيني وبينه جسورا للتواصل لا جدران للتفرقة العنصرية المقيتة والتعالي الزائف ومتى هدمنا جدران الحقد والكراهية وحولنا العلاقة فيما بيننا إلى علاقة تعاون لا علاقة عداوة هنا فقط سنقطف جميعا حلو ثمار تعايشنا المشترك والوطن الذي نبنيه للجميع وبالجميع.

وسوم: العدد 955