أبو تريكة واللاجئون "البيض".. الحقائق العارية في الحرب الأوكرانية!

لأسباب كثيرة تعاطف غالبية العرب مع الشعب الأكراني في مواجهة الغزو الروسي، أهمها بسبب الدور الروسي في دعم نظام بشار الأسد ودمويته ضد شعبه، إضافة إلى التعاطف "الفطري" مع الشعوب التي تتعرض للغزو من قبل قوى كبرى، خصوصا أن العرب هم أكثر من تعرض للغزو والاحتلال خلال العقود الماضية.

لا تفكر غالبية الشعوب ولا ينتظر منها أن تفكر بالحسابات الاستراتيجية بعيدة المدى لأي صراع، وغالبا ما تتخذ مواقفها بناء على حسابات آنية ومباشرة، لذلك يمكن فهم هذا التعاطف، مع التأكيد على أن كلمة "غالبية" المستخدمة في بداية المقال ليست "علمية"، وإنما انطباع عام يمكن أن نشكله -بحذر- بناء على متابعة ما يقوله الناس ويكتبونه على مواقع التواصل الاجتماعي.


بدأ هذا التعاطف يقع تحت الاختبار عندما "طفحت" مواسير العنصرية والمعايير المزدوجة من الإعلاميين والسياسيين الغربيين على حد سواء. فبينما عوقب أبو تريكة مثلا بسبب ارتدائه قميصا يحمل عبارة "من أجلك يا غزة" في إحدى المباريات، باعتبار أن هذا التصرف يتناقض مع منع "الفيفا" استغلال الرياضة في السياسية، احتفى الإعلام الغربي بارتداء لاعبي مانشستر سيتي وإيفرتون العلم الأوكراني في مباراتهما التي عقدت قبل يومين.

لم تقتصر التناقضات على هذه الالتفاتة الرياضية، بل كان الأسوأ هو التصريحات السياسية والإعلامية عن الألم لحال اللاجئين الأوكرانيين لأنهم "متحضرون، بيض، ذوو عيون زرقاء وشعر أشقر، وليسوا من دول غير متقدمة وغير متحضرة مثل العراق وأفغانستان"، كما قال أكثر من صحفي وسياسي غربي!


سكت الإعلام الغربي، بل شارك بكل هذه التصريحات العنصرية، وتغافل عن تغطية الممارسات التي لو حدثت في الشرق الأوسط لكانت تصدرت عناوين الصحف الغربية، مثل منع اللاجئين السود والأفارقة من عبور الحدود بالسهولة ذاتها لمرور الأوكرانيين "البيض"! وعرقلة اللاجئين الهنود؛ لأن بلادهم لم تصوت في مجلس الأمن على إدانة روسيا، وحشو ذخائر الجيش الأوكراني بدهن الخنزير قبل استخدامها لمقاومة الجنود الشيشان المسلمين الذين يشاركون الجيش الروسي بالغزو، وغيرها من المظاهر.


الدول الغربية وإعلامها "الليبرالي"! رحب بالمقاومة الأوكرانية، ودعم مشاركة مواطنين أوروبيين في التطوع للقتال ضد روسيا، وهي الدول ذاتها والإعلام ذاته الذي يصف كل من يقاوم الاحتلال الإسرائيلي والاستبداد في الشرق الأوسط بأنه إرهابي أو إرهابي محتمل.

أدت هذه التناقضات إلى إثارة الشجون والمقارنات لدى المتابع العربي والمسلم والشرق أوسطي للحدث، وشعر أكثر من أي وقت مضى بحقيقة النظرة الاستشراقية له في الغرب، وأدرك -كما لم يحصل من قبل- مدى انعدام العدالة في هذا العالم.


ثمة تناقضات كثيرة لا يتسع المجال لذكرها؛ بسبب عددها الهائل، كما أنها صارت معلومة لكل من يتابع وسائل الإعلام غير التقليدية، وما يهمنا ونحن نتابعها كعرب أن نقرأ دلالاتها وانعكاساتها علينا.

أولى هذه الدلالات هي أن البشر والدول تتعاطف وتتفاعل أكثر مع من ينتمي لفضائها الثقافي والديني والتاريخي. ليس هناك غرابة في الدعم الغربي لأوكرانيا، هذا أمر طبيعي، لكن غير الطبيعي هو أن الغرب يمارس هذا الأمر دون خجل في الوقت ذاته الذي يعطينا فيه دروسا عن "القيم العالمية" والعدالة للجميع، وغيرها من الشعارات. لك الحق أيها الغربي أن تتأثر بضحايا أوكرانيا أكثر من تأثرك بضحايا أفغانستان والعراق، لكن أرجوك، توقف عن إعطائنا الدروس القيمية وعن مزاعم "تفوقك الأخلاقي"!

في الدلالة ذاتها، يجب هنا أن ننظر نحن العرب في المرآة، وأن نلوم دولنا التي لا تتعامل وفق هذا المنطق الطبيعي والفطري. فبينما تفتح أوروبا المجال للاجئين الأوكرانيين لثلاث سنوات، فشلت الدول العربية في تجربة اللجوء السوري، باستثناء الأردن وتركيا ولبنان ومصر إلى حد ما في عهد الرئيس الراحل محمد مرسي، مع ضرورة التنبيه إلى مظاهر العنصرية التي تعرض لها اللاجئون السوريون في لبنان تحديدا، وإلى أن استضافة مصر للاجئين السوريين ليست كاستضافة أوروبا للأوكرانيين من حيث ما يقدم لهم من امتيازات وحقوق.

ا

ثاني الدلالات المهمة في هذا النقاش، هي أن الأخلاق الحقيقية لا تظهر في حالات الرخاء، وأنها يجب أن تختبر في أوقات الشدة والصراعات. ظهرت الحقائق عارية خلال خمسة أيام فقط من الحرب، واختبرت شعارات الغرب عن العدالة والمعايير الثابتة والقيم العالمية. ما يهمنا نحن العرب في هذه الدلالة، أنها تعري الـ"نيو-ليبرالية" العربية، التي لم ينقصها سوى أن تعبد القيم الغربية، وليس فقط أن تتغنى بها. كشفت الأحداث أن المستلبين ثقافيا الذين باتوا يخجلون من عروبتهم عند مقارنتها بالقيم الغربية عليهم الآن أن يخجلوا من أنفسهم لا من عروبتهم. لقد كشفت خمسة أيام فقط تناقضات أوروبية أكثر من كل ما كشفته سبعة عقود من الصراعات والهزائم التي عاشها العرب، وكثير منها حصل أصلا بمشاركة القوى الغربية، من احتلال فلسطين حتى احتلال العراق، وما بينهما من دعم للاستبداد والديكتاتوريات التابعة للغرب.


ثالث هذه الدلالات هي أن الإنسان هو ابن شرعي لأزماته وهواجسه ومشكلاته. ينطبق هذا على الغربي والعربي، وعلى كل شعوب العالم، ولهذا -مرة أخرى- فإن من الطبيعي أن يتعاطف الأوروبي مع قضية شعب أوروبي يشترك معه في التاريخ والجغرافيا والانثروبولوجيا والدين. ولكن في الوقت ذاته من حقنا العرب أن نرى كل قضايا العالم أيضا من زاوية صراعاتنا وقضايانا. لذلك فمن المستغرب أن يستكثر بعض المعلقين العرب -العالميين!- علينا أن نتذكر مآسينا وقضايانا وضحايا شعوبنا في خضم الحرب الأوكرانية. إن الطبيعي والفطري والمنطقي أن ينظر العربي لأزمة اللجوء ويتذكر تعامل العالم مع لاجئي شعبه، ومن الطبيعي أن يتذكر موقف الغرب الداعم لقتله وظلمه، ويقارنه بردة الفعل الغربية تجاه الغزو الروسي، ومن الطبيعي أن يذكر العربي احتلال فلسطين عندما يقف العالم ضد احتلال أوكرانيا. من الطبيعي أن يتذكر العربي ضحاياه دون أن ينقص ذلك من تعاطفه مع الأوكراني.


ليس في الحرب -أي حرب- من فوائد أو إيجابيات، خصوصا أن من يدفع ثمنها هم الفقراء والناس الأبرياء والضعفاء، لكن الحرب تقدم فرصة نادرة لدراسة التاريخ والحاضر والمستقبل، وقد علمتنا الأيام القليلة الماضية عدة دروس، أهمها كيفية نظرة الغرب لنا كعرب أو مسلمين أو شرق-أوسطيين، وعلمتنا أيضا أن من الضروري أن نتعاطف مع الضحايا، بغض النظر عن لونهم وجنسهم ودينهم، ولكن دون أن ننسى ضحايانا، رضي سدنة هيكل "القيم الكونية" أم غضبوا!

وسوم: العدد 971