رأي الدكتور عبد الله النفيسي في " أوروبية " الفلسطينيين وبداوة الخليجيين

أثار ما قاله أستاذ العلوم السياسية الدكتور عبد الله النفيسي في صحيفة " القبس " عن " أوروبية " الفلسطينيين وبداوة الخليجيين كثيرا من الجدل بين مؤيد لما قال ومعارض له . أفكار النفيسي دائما من خارج الصندوق العربي العتيق الذي نخره السوس ، وهي ذات أبعاد اجتماعية وثقافية ونفسية وسياسية وثيقة الصلة بسلوك الإنسان في مجمله ، وسماتها علمية صرفة . ولقيمته العلمية حاضر أستاذا زائرا في جامعات عالمية ، منها "هارفارد " الأميركية ،  و "بكين " الصينية " ، و" موسكو " الروسية . ودلالة على توجهه السياسي والاجتماعي ، شارك في المؤتمر التأسيسي ل " المنظمة العربية لحقوق الإنسان " ، ولبث عدة سنوات عضوا في مجلس أمنائها . وفي المجمل يمكن وصفه بفيلسوف اجتماعي من نوعية ابن خلدون . النفيسي وصف الفلسطينيين بأوروبيين ، ووصفه واضح القصد . إنهم ، مثلما يراهم ، أوروبيون في عقليتهم وجديتهم لا في نسبهم ، وهذه الأوروبية صنعت منهم أناسا مهرة في مختلف ألوان المعارف والخبرات التي مارسوها في دول عربية كثيرة في طليعتها الدول الخليجية ، فكان منهم المعلمون والأطباء والمهندسون والعمال والمزارعون . وهذا إنجاز عظيم لشعب اغتصب وطنه في مؤامرة عالمية من أحط مؤامرات التاريخ . فماذا كان سيصنعه هذا الشعب من المنجزات العظيمة لو لم يغتصب وطنه ؟! ولم يغتصب الوطن وكفى . ترادفت حروب إسرائيل المغتصبة عليه ، وخالطت حروبها مؤامرات عربية سرية وشبه علنية وأخيرا علنية للقضاء عليه . إسرائيل والمتآمرون العرب والعالميون معها  يؤمنون أن زواله أو تشتته البشري هو الضمان الوحيد لبقائها . وفي هذا الاتجاه يستنتج الراحل عبد الوهاب المسيري من قراءته لتاريخ الاستيطان في العالم أنه ما من مستوطنين استطاعوا تأسيس دولة باقية إلا بالقضاء على أهل البلاد الأصليين مثلما استطاع المستوطنون الأوروبيون تأسيس الولايات المتحدة في أميركا الشمالية ، المستوطنون البريطانيون تأسيس أستراليا بالقضاء على أكثر السكان الأصليين في القارتين . في جنوب افريقيا أخفق المستوطنون الأوروبيون في القضاء على سكانها ، فانهارت دولتهم حتى بعد أن صارت دولة نووية . وتعرف إسرائيل هذا أكثر مما يعرفه حلفاؤها من العرب ، وتجتهد بكل وسائل القتل والهدم والإجرام للقضاء على الفلسطينيين أو إخلاء فلسطين منهم ، وكلما اقترب منها شبح نهايتها تصاعد قتلها لهم وهدمها لبيوتهم ومؤسساتهم ومرافق حياتهم  ، وتنوعت جرائمها ومظالمها في معاملتهم . ويفاجئونها دائما بصلابة صمودهم ، وبعمق حبهم لوطنهم ، وتغوُر رسوخ جذورهم فيه ، وقدرتهم على التضحية بأرواحهم حماية له وبقاء فيه . وهي اليوم في حال هوس وهذيان . تهدد أعداءها بالهجوم الشامل  ، وبالمعركة بين الحربين ، وبالاغتيال لقيادات سياسية أو علماء وخبراء ، وتضيق على غزة ، وبعد يوم أو يومين تزيل التضييق . وحكومتها مترنحة ، وساستها متناحرون ، وجيشها يثير الشكوك حول قدرته على القتال في عدة جبهات في وقت واحد ، وسياحها فزعون في تركيا وفي سوى تركيا من انتقامات إيران . ودائما أقول لمن أتحدث معه إننا أكثر اطمئنانا  من الإسرائيليين رغم تفوقهم تفوقا عسكريا كاسحا علينا ، ورفاهية حياتهم وضنك حياتنا . أنا ، مثلا ، أتوقف عن كتابة المقال على الحاسوب لنفاد الكهرباء ، واضطررت البارحة ، عند انتهاء عملي في العاشرة والنصف ليلا ، للنزول على قدمي من الدور العاشر لانقطاع الكهرباء مستهديا بضوء الجوال .وأخجل من ذكر هذا اللون من المقاساة موازنة بألوان مروعة مما يقاسيه الشعب الفلسطيني في غزة والضفة وفي الداخل المحتل . في معرض فني في غزة ، شاركت الفنانة الفلسطينية زينب الكولك بتسع لوحات يغلب عليها اللون الأسود تصويرا لمأساتها في عدوان مايو  2021 الإسرائيلي بفقد 22 فردا من عائلتها في شارع الوحدة ، وفي بيان إعلامي في المعرض كتبت : " عمري 22 عاما وفقدت 22 شخصا . " .  

ما من إسرائيلي يبقى في فلسطين لو كانت حياته شبيهة بحياة الفلسطيني في مشاقها وآلامها وتعقيداتها الملتوية المغلقة المنافذ . وجدية الفلسطينيين وعقليتهم وسائر صفاتهم المتفوقة ، ومنها قوة الإرادة وحب العلم ، ليس مصدرها تأثرهم بالأوروبيين . مصدرها إيمانهم وعروبتهم واستشعارهم عظمة التاريخ العربي الإسلامي . لدى العرب والمسلمون من منابع القوة والثقة بالنفس ما يغنيهم ذاتيا ، وهو دينهم بهدي قرآنه المنير وسيرة نبيهم  _ صلى الله عليه وسلم _ المرشدة لكل فلاح في الدنيا والآخرة . الفلسطينيون  يسمون مدارسهم " مدرسة أبي بكر الصديق " و " مدرسة  خالد بن الوليد " و مدرسة ابن سينا " وسواها من التسميات العربية الإسلامية . ومساجدهم مدارس للناشئين من الصغار بنين وبنات لحفظ القرآن الكريم . وليس من مدلولات هذا التوجه العربي الإسلامي معاداة الثقافات الأخرى وعدم الأخذ منها . الفلسطينيون منفتحون على كل الثقافات انطلاقا من ثقافتهم العربية الإسلامية ، ولا أحد في عالم القرية الواحدة وسرعة الاتصال يستطيع عزل نفسه ، والمراد اتصال مع الحفاظ على الهوية الثقافية الخاصة .  والبداوة الخليجية التي يقصدها النفيسي بداوة اجتماعية لا بداوة حضارية ، حضاريا ، يمتلك الخليجيون بفضل ثروتهم النفطية الكبيرة أحدث السيارات ، ويسكنون منازل تتوفر فيها كل مواصفات المنزل العصري ، وشوارع مدنهم حديثة ، ومؤسسات حكوماتهم تستعمل أحدث وسائل الإدارة . المشكلة الكبرى في البداوة الاجتماعية التي لم ترافق التطور الحضاري المادي ، فلبثت القبيلة محور العلاقات الاجتماعية ، والتهم هذا المحور التطور السياسي في الدول الخليجية ، فلم تنفصل فيها السلطات الثلاث ، التنفيذية والتشريعية والقضائية ، إلا انفصالا شكليا مخادعا ، ومنع تكوين الأحزاب والنقابات المهنية ، وقُصِرت كل المناصب السيادية على أبناء القبائل الحاكمة ، وتخفى بعضهم خلف أسماء من الشعب للسيطرة على المصارف والمؤسسات المالية والإعلامية ، وحرم الشعب كليا ، باستثناء الكويت ، من أي تأثير على سياسة الحكام القبليين المحميين من المراقبة والمحاسبة الشعبية البرلمانية والإعلامية ، وصار الموجود هو ما سماه الراحل هيكل " قبائل تتخفى في أزياء دول " . لو تحررت دول الخليج الست من القبلية السياسية لكونت دولة عربية واحدة قوامها المساواة بين المواطنين في كل الحقوق بما فيها الحق السياسي ، ولانضمت اليمن إلى هذه الدولة ، ولظهرت دولة عربية كبيرة في جزيرة العرب يقترب عدد من 60 مليونا . كل مواصفات الدولة الواحدة متوفرة وفرة لا مثيل لها في شعب الجزيرة العربية لولا القبلية السياسية التي هي أكبر فروع البداوة الاجتماعية . ولا شبيه لهذه الظاهرة في العالم . الهند والصين كلتاهما دولة واحدة على تعدد الأعراق والثقافات واللغات والديانات . ولماذا نبتعد ؟! إيران جارة الجزيرة العربية دولة واحدة من أكثر من ثلاثين عرقية .  

قسمت بريطانيا جزيرة العرب بين قبائل ست إنجازا لأهدافها وأهداف الغرب في المنطقة ، ولبث اليمن منبوذا وحده ، وحافظت القبائل الست على التقسيم البريطاني الذي يحفظ لها هيمنتها القبلية ، وورثت أميركا التقسيم ، وورثت المحافظة عليه بفظاظة وجلافة ، واقترنت حمايتها لإسرائيل بهذه المحافظة ، فتمادى اندفاعها فيها ، وها نحن في مرحلة تكوين ناتو عربي إسرائيلي لبعض الدول الخليجية فيه دور كبير . من محاسن الكويت ظهور مفكر من قامة الدكتور عبد الله النفيسي فيها ، وامتلاكه حرية التفكير والتعبير . وكم من نفيسي في الدول الخليجية الأخرى ! إلا أنهم مكبوتون ، وبعضهم فر من وطنه ، وأخذ يخاطب شعبه من الخارج ، ويحثه  على التحرك لأخذ حقوقه السياسية التي سيترتب عليها أخذ حقوق أخرى كثيرة .  

وسوم: العدد 985