"الحل النهائي" زلة لسان أم زلة ضمير؟

بسقوط الوحش النازي وهزيمته في الحرب العالمية الثانية ترسخت بعض المفاهيم المأخوذة من دروس الحرب العالمية الثانية، فصارت اللاسامية جريمة، وصار إنكار المحرقة اليهودية خطيئة يعاقب عليها القانون. وبرزت محاولات أوروبية من أجل تجاوز الصدمة التي صنعها الفكر العنصري القومي على الوعي والحياة اليومية، وطردت بعض العبارات التي تحمل طابعاً عنصرياً من اللغة.

إحدى العبارات التي تمت إدانتها هي عبارة «الحل النهائي للمسألة اليهودية» بما تحمله من مضمون عنصري وإجرامي.

لذلك فإن قيام مناحيم بيغن باستخدامها في معرض حديثه عن الفلسطينيين يثير الاستغراب والاستهجان في آن معاً.

هل كانت زلة لسان أم زلة ضمير؟

من المرجح أنها لم تكن لا هذه ولا تلك، رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي قاد اليمين إلى حرب لبنان الأولى بمآسيها ومجازرها كان واعياً لما قاله. الفاشيون لا ينتظرون التحليل الفرويدي للاوعيهم الذي يتجلى في زلات ألسنتهم. وحين تسود الجريمة يمتزج الوعي باللا وعي، ونكون أمام لسان ينطق بما يمليه عليه ضمير ميت.

ومع ذلك، فقد فوجئت بالتقرير الذي نشره عوفر اديريت في صحيفة «هآرتس» (6 حزيران- يونيو 2022)، وعنوانه «عندما ناقش ريغان وبيغن حلاً نهائياً للمسألة الفلسطينية».

مفاجأتي ليست بسبب مضمون الحوار، ولا لأنه كشف النية الإسرائيلية لفرض «الحل النهائي»، بل هي مفاجأة لغوية.

فتعبير «الحل النهائي»، يستخدم ككناية عن المشروع النازي لإبادة اليهود. إنه عبارة تحيل حكماً إلى مشروع الإبادة، وهي مستلة من القاموس النازي، واصطلح على استخدامها في هذا السياق.

مفاجأتي تعود إلى عدم تحرج رئيس الحكومة الاسرائيلية آنذاك عن استخدام القاموس النازي في الحديث عن الفلسطينيين.

في الوقائع التي كشفها محضر سري للاجتماع بين الرجلين في 21 حزيران- يونيو 1982، والذي أفرج عنه من أجل بحث يُعد في جامعة نيويورك، اقترح بيغن على الرئيس الأمريكي حلاً نهائياً لوجود حوالي 400 ألف لاجئ فلسطيني في لبنان. والحل هو طرد اللاجئين إلى ليبيا والعراق.

في هذا الربط بين زلة اللسان النازية، والتطهير العرقي، نعثر على المعنى الجوهري للصهيونية.

حرب 1948، كانت المحاولة الأولى لتطبيق الحل النهائي:

فالحل النهائي الإسرائيلي قام على تزاوج عاملين:

العامل الأول هو ترويع الفلسطينيات والفلسطينيين. وأداة هذا الترويع كانت مجموعة من المجازر الموضعية: دير ياسين، الصفصاف، عين الزيتون، عين حوض، أبوشوشة، الطنطورة وغيرها كثير. لم يكن هدف هذه المذابح الإبادة بل التخويف عبر التلويح بمقتلة جاعية محتملة.

العامل الثاني هو التطهير العرقي، الذي يأتي كمحصلة للعامل الأول؛ أي وضع الفلسطينيين أمام الهرب الإجباري سيراً على الأقدام أو في القوارب، ومن لم يهرب يتم وضعه في الباصات التي ترميه على الحدود.

كان هناك حرص إسرائيلي سياسي وأكاديمي على حجب هاتين الحقيقتين المترابطتين، ونفي وجود مشروع تطهير عرقي منظم، والتأكيد على «طهارة السلاح الإسرائيلي» وإلى آخره…

غير أنه مع صعود اليمين العنصري واجتياحه مفاصل السلطة والمجتمع، ومع تحول المستوطنين إلى قوة صاعدة وشبه مهيمنة، ومع عودة الكاهانية إلى المتن السياسي –الاجتماعي، زال الحَرَج الإسرائيلي، إلى درجة قيام عضو الكنيست الليكودي يسرائيل كاتس بتذكير الفلسطينيين بالنكبة، كوسيلة لردع مقاومتهم في الأراضي المحتلة!

صار الإسرائيليون يلعبونها على المكشوف، وسبق لمناحيم بيغن أن تباهى بأن مجزرة دير ياسين (نيسان- إبريل 1948) التي قادها بنفسه، لعبت دوراً تأسيسياً في نجاح مشروع الدولة اليهودية.

بيغن وأستاذه جابوتنسكي لم يخفيا يوماً تبنيهما للنموذج القومي الألماني، لكن لم يسبق لأي مسؤول إسرائيلي، حسب علمي، أن تجرأ على استخدام مصطلح «الحل النهائي».

والغريب أن نشر التقرير في «هآرتس»، لم يثر أي نقاش في إسرائيل، ولم نشهد أي ردة فعل في مواجهة استخدام مسؤول يهودي قادم من بولندا هذا التعبير، الذي يرتبط بذكرى يهودية بولندية لا تزال تعاني من تروما الهولوكست.

إذا قرأنا السياسة الإسرائيلية في المناطق المحتلة بصفتها محطات تمهيدية للوصول إلى الحل النهائي، فسنصاب بالذهول.

كأن هناك خريطة طريق مرسومة بدقة يتم تطبيقها وتكييفها مع الظرف السياسي المتغير.

فالكلام الإسرائيلي عن حل الدولتين، سواء حمله اليسار الصهيوني أو اليمين الفاشي، كان يعني استمرار الاحتلال. ولم يعط الفلسطينيين عبر سلطتهم التابعة، سوى شرف قمع شعبهم، وخدمة المشروع الكولونيالي.

ما نشهده هو عمل إسرائيلي يومي من أجل خلق مناخات تسمح للفاشيين بالوصول إلى فرض «حلهم النهائي»، حين يجدون ظرفاً ملائماً لذلك.

فحين يقوم الجيش الإسرائيلي بتكبيل طفلتين: سلوى (11 سنة) وشقيقتها زينب (12 سنة)، فهذا يعني أن القمع الاسرائيلي دخل مرحلة جنون هذياني. مستوطن في الخليل كان يراقب أطفالاً يلعبون في الشارع، شكّ في احتمال أن تكون سلوى رمت سكيناً، واتصل بالشرطة. لم يكلف الضابط نفسه عناء الاستماع إلى الطفلتين، فكبلهما، لأن الطفل الفلسطيني إرهابي بالضرورة.

تعالوا نفترض أن الشرطة الفلسطينية قامت بتكبيل طفلتين يهوديتين، ماذا ستكون ردة فعل العالم «المتحضر».

افتراضنا خاطئ لسببين، الأول هو أن «الشرطة الفلسطينية غير معنية بحماية الفلسطينيين ولا تجرؤ على ذلك، والثاني لأن تكبيل طفلتين هو عمل وحشي ومدان، بصرف النظر عن هويتهما.

الذي يخوض حرباً على الأطفال ويقتل الصحافيين ويعربد في شوارع القدس، ويعتدي على القرى بشكل يومي، ويذل الناس على الحواجز، ينفذ أجندة واضحة أطلق عليها مناحيم بيغن اسمه «الحل النهائي».

لا شك أن القراء يعرفون كيف انقلبت الأمور، فأنهى بيغن حياته في مستشفى الأمراض العصبية في دير ياسين، القرية التي كان يتفاخر طوال حياته بأن مذبحتها أسست إسرائيل.

وبيغن لم يجانب الصواب حين وصف دور المجزرة التأسيسي في قيام الدولة العبرية، لكن خلفاءه في أيامنا يستعدون للسير مجدداً في وحل الجريمة.

لكنهم يتناسون أن الفلسطينيين قرروا أن يكتبوا نهاية هذه الحكاية الإجرامية، وسيحطمون الحل النهائي بصبرهم وصمودهم ومقاومتهم.

وسوم: العدد 985