بوتين ومرض التعلق بإرث القياصرة والسوفييت

قبل حوالي أربعة عقود تقريباً، وبالتحديد في العام 1986، عندما كان الاتحاد السوفياتي يقترب من نهايته، حاول روائي روسي ساخر تخيل مستقبل وطنه، لقد تصور وصول شخص إلى سدة الحكم كان قد ارتقى في صفوف الـ "كي جي بي"، واستخدم الحرب لتعزيز سلطته، ورقى زملاءه الأمنيين السابقين إلى مناصب متنفذة، وادعى أنه يستمد السلطة من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية وسيطر على حكم البلاد لعقود، وبعبارة أخرى تنبأ الكاتب بقدوم فلاديمير بوتين الذي يحكم الاتحاد الروسي حالياً.

كان هذا المؤلف هو فلاديمير فوينوفيتش، وروايته التي تحمل عنوان "موسكو 2042".

وعلى الرغم من أن الرواية لا تشتمل تصويراً للقائد ممتطياً صهوة جواده وهو عاري الصدر، كما فعل بوتين في إحدى إجازاته في صربيا عام 2009، إلا أن أفعاله في العمل المكتوب عام 1986 تحمل تشابهاً غريباً مع تصرفات الرئيس الروسي الحالي.

كان بوتين يبلغ من العمر 47 عاماً فقط عندما تولى الرئاسة للمرة الأولى، لكن في العام 2021 أقحم تغييراً دستورياً يسمح له بشغل المنصب حتى العام 2036، أي السنة التي سيتم فيها عامه الـ 84.

التقدم في السن ليس العامل الوحيد الذي يشترك فيه بطل الرواية مع بوتين، بصفته ضابطاً كبيراً سابقاً في الـ "كي جي بي" أمضى سنوات عدة في ألمانيا، ملأ حكومته بأصدقائه من أيام عمله في جهاز المخابرات، وقاموا سوية بإنشاء حزب أمن الدولة الشيوعي، وهو عبارة عن مزيج متشابك من المشرعين والشرطة السرية الذين يترأسون "مجتمعاً شيوعياً لا طبقياً ولا يتبع نظاماً معيناً".

قبل أيام وقف بوتين لسبع وثلاثين دقيقة أمام مؤيديه وهو يخطب خطاب حرب سمّاها "حرب وجودية" مع "الغرب ــ العدو". خطاب كراهية، تحريف للتاريخ والحاضر، صراع حضارات، أشرار وأخيار، استحضار أجداد قيصريين وسوفييت، خطاب يريد عالماً مقسوماً إلى فسطاطين، نحن وهم، الأخلاق والفاقدين الأخلاق، جماعة القيم وجماعة تغيير جنس الأطفال! خطاب أمّه نظرية المؤامرة. اختلاق أحكام رجعية مطلقة، وعود بمستقبل ينتمي إلى ماضٍ مضى منذ قرون. خطاب مليء بـ"الأبد" أيضاً كحتميات البعثيين والسوفييت، ويعبق بكل صفات "العظمة والوطن الأم"، ويريد أن يقنعنا بأن النموذج الذي سيولد من رحم عودة روسيا القيصرية يحترم الإنسان وحريته ورفاهه وحقوقه أكثر مما يفعله الغرب والليبرالية والديمقراطية والحداثة والتنوير في حال عمّوا المعمورة، والمثال ما فعله في سورية من فظائع وجرائم لم يروي التاريخ مثيلاً لها، وتلك هي المثل والقيم التي يؤمن بها ويجسدها حقيقة على الأرض، ويسعى مجتهداً ليفعل في أوكرانيا ما فعله في سورية، ولكن من حسن حظ الأوكرانيين أنهم ينتمون إلى الغرب المنافق الذي هب لنصرته، ويحول دون تمكين بوتين من تكرار ما فعله في سورية، التي خذلها القريب والبعيد والشرق والغرب، لينفرد بها مجرم الحرب بوتين بكل ما لديه من ترسانة حرب مهلكة ومدمرة، فسورية وشعب سورية ليسوا دولة أوروبية، وليفعل بها بوتين ما يشاء وليقبض الثمن الذي يريد ويروي تعطشه للدماء.

لم يكتف الغرب المنافق بالتنديد والقلق حيال ما يقوم به بوتين في حربه على أوكرانيا كما كان حاله مع سورية، بل هب يقدم الأسلحة والذخائر المتطورة والدعم اللوجستي والمخابراتي للأوكرانيين ليحول دون سقوط أوكرانيا بيد بوتين، بل راح أبعد من ذلك وزود كييف بأحدث ما في الترسانة العسكرية الغربية من أسلحة متطورة لتستعيد بعض الأراضي التي خسرتها في بداية الحرب مع روسيا، ولتتمكن من هزيمة الجيش الروسي في عدة جبهات، وتدمر له أسلحته التي لم تصمد أمام أسلحة الدعم الأوروبي المتطورة.

طبعاً بوتين لا يزال يخوض تلك الحرب طمعاً في تغيير مسارها لمصلحته، دون أن يؤوب إلى رشده، فجنون العظمة وتعلقه بإرث القياصرة وحقبة الاتحاد السوفييتي، تجعله فاقداً بصيرته تجاه الحقائق على الأرض، وما يتكبده جيشه من خسائر في جبهات طولها أكثر من ألف كيلو متر وعمق مئات الكيلو مترات، ولعل الضربة الأخيرة التي وجهتها أوكرانيا للجسر الذي أقامه في القرم ليكون طريق إمداد لقواته، أكبر دليل على الفارق بين جيشه وأسلحته وبين ما يمد به الغرب الأوكرانيين من سلاح متطور وفعال.

صحيح أن بوتين لا يزال يحاول إشعار العالم بقوته ملوحاً بالسلاح النووي، مع معرفته أنه لا يستطيع أن يستخدمه لأن بلاده هي أول من ستتلقى الضربة بهذا السلاح قبل أن يحاول استخدامه ضد أوروبا أو أي بقعة في العالم.

ولعلنا نرى في قابل الأيام مصيراً لمجرم الحرب بوتين المتعلق بإرث عظمة القياصرة والسوفييت كمصير هتلر الذي تعلق بإرث النازية وموسولوني الذي تعلق بإرث الفاشية، اللهم آمين...!

المصدر

*العربي الجديد-5/10/2022

*اندبندت-24/3/2022

وسوم: العدد 1001