اللعبة الطائفية

لايمكن لعاقل تسويغ الطائفيّة واستساغتها؛

فهي شر خطير وقاتل

د. سماح هدايا

أذاقتنا الطائفيّة ويلات حروب وطغيان.  وعايشنا لزمن طويل المحن والشدائد. وحاول المتربصون بشعبنا عرقلة نهضة الأمة وتمزيق المجتمعات،  بظلامية العقل الطائفي. وللأسف لم يتصد الإعلام وهيئات حقوق الإنسان على مدى  عقود  بقوة وجدية للممارسات الطائفية الاستبدادية، التي استخدمتها الأنظمة. لكنْ، عندما بدأ الشعب ثورته،  أردادوا تفجير مسعاه  بفكر ظلامي وعنصري تحت ثياب الدين والمذهب، لكي يعرقلوا نمو مشروع شعبي ناهض يحمل الحرية، ويبلور فكرا سياسيا عقائديا معاديا لهم ولفلسفتهم ومصالحهم. عابثين بورقة إرهاب الثورة  وطائفيتها.

وخوفا من أن تخرج الثورة عليهم ، بادروا لصناعة معارضة سياسية قاصرة، قائمة على أسس طائفية واثنية ومناطقية، واخترقوا الثورة بمجموعات  مختلفة، من استخبارات النظام واستخبارات دول أخرى لها مصلحة في استغلال الصراع السوري، يتغذّى بعضها على الكهنوتيّة الدينيّة انطلاقا من حالة الثأر والحقد على ممارسات النظام الباطش المجرم.  

الثورة  حالة تغيير  شرسة بشراسة المتناقضات الفظيعة في طريقها وواقعها.لا مثاليات أفلاطونية، ولا تأملات طاغورية.  مايلزمها هو الرؤية وليس الانفعال والارتجال والاتجّار. هي بحاجة لتوحيد صفوف الثوار والمعارضين  في مشروع شعب، لا مشروعات حزبية  ومذهبيّة ضيقة متناحرة. غير أن ممارسات  سياسية وإعلاميّة واستخباراتيّة لبعض الجهات الداخلية والدولية، لعبت بالمعارضة وبصفوف المقاتلين،  وراحت تقوي المتناحرين مذهبيا وعقائديا وسياسيا ، لكي تمنهج عملا منظّما  لتفكيك الثورة؛ فتساعد الأقليات، هنا في ذلك التجمّع وتلك الكتائب، ثم تدعم هناك،  جماعات متطرفة مغيبة عن الحداثة والواقع والتمدّن، وتنشر مرتزقة، معدة مسبقا، لتجوب في الأرض تعيث فسادا، شبيها بما حصل في دول أخرى، اعتمادا على رؤية تفتيتيّة تستغل المال والحماية للتركيع، وتعمل لترسيخ صورة قبيحة للثورة والثوار في إطار نمطيّة  الإرهاب والطائفيّة والعصاباتيّة.

    لم يستفد من حكم الاستبداد الأسدي وعصابته العنصريّة المدعومة من  أنظمة السياسة العالميّة الاستعماريّة،  غير أقليّة سياسيّة  ساندت الاستبداد وصارت جزءا منه، أوجدت مع الزمن إرثا  فكريّا عنصريّاً طبقيا، وبنت  عصابات قتال طائفيّة وعنصريّة، كانت تتصدر الأزمات، بين الحين والآخر، على مرآى  العالم كله  في شرقه وغربه، لتقوم بتقديم خدمات سياسية عالمية لمراكز الهيمنة والتسلط المرتبطة بها وبمشاريعها. الورقة الطائفية والمذهبية كانت جزءا من الأسلحة المستعملة ضد الدول المغلوبة؛ مثلها مثل التفقير والتجهيل والاضهاد والاحتلال والعدوان.

    ولا يمكن تفسير  حرب الإرهاب ضد العرب والمسلمين  برعاية سياسة أمريكا والغرب خارج الذرائع الدينية لأبعاد سياسية. ...ألم تكن النتيجة تدمير العراق بحرب عنيفة طاحنة واحتلاله، وتأسيس اقتتال طائفي وعرقي وإتاحة المجال واسعا لسياسة إيران العنصرية بالاتفاق مع حلفائها العنصريين   للاستمرار في معركة تدمير العراق وتكريس الفتن، ثم العبور إلى سوريا لقتل أبناء الشعب السوري من المدنيين والثوار بالتعاون مع حليفها المصطنع حزب الله  ومحاربة   السوريين والمسلمين وارتكاب أبشع المجازر باسم المقدسات الدينية والثارات التاريخية العنصريّة لإحكام السيطرة على الأرض العربيّة كلها وفرسنتها؟

لم يعد غائبا عن الوعي أن الذي احتضن كل حركات التفكير التكفيري ورسخ  الصور النمطيّة لرجال القاعدة في محاربة  الشيوعيين، أولاً،  ثم  النهضويين العرب والمسلمين هو سياسة أمريكا والغرب الاستعمارية وسياسة دويلات العنصرية وأنظمة الرجعيّة العربيّة المتحالفة معها. ويرتبط، ذلك كله، بمشاريع دولية  ممنهجة لتكريس الفكر الطائفي  وتفكيك الدولة ونشر العصبيّات ومحاربة المشاريع الإسلامية السياسية غير السلمية، مستغلة ظرف الواقع المتخلف لأمتنا؟

  صحيح أن هناك أخطاء جسيمة وقعت بها تجارب الأحزاب الإسلامية؛ لكنها مثل بقية الأحزاب الأخرى القومية واليسارية، فشلت في التجسيد الديمقراطي وفي التمثيل النهضوي الواقعي وظلت أسيرة الفكر العقائدي الراسخ، وأسيرة ولاءات دولية خطيرة تعبث بها.  ويحضر قويا مشروع  الأقليّات السياسية والفكريّة  ويحمل مدلولات خطيرة على كيان الأمة، تصنعه مصالح الدول المهيمنة،  تحت عنوان الخوف من الإسلام الإرهابي الظلامي، والخوف من التعصب القومي العربي، منعا لتفعيل دور  العروبة والإسلام واقعيا في بناء مشروع مدني ديمقراطي حضاري للأمة، وهما في الأصل، جوهر ثقافة  هذه الأمة،  التي أوجدت عبر القرون الطويلة  حضارة زاهية،  قبل أن يجري تفتيتها  وتقزيمها بالاستبداد والغزو والاحتلال والجهل وهيمنة الدخيل.

    لمن الخطأ السياسي والأخلاقي اعتبار العرب المسلمين عدو الحضارة والإنسانيّة. إن أنظمة الاستبداد كلها، ومنظومة الإسلام  الرجعي الاستبدادي الداعم للأنظمة المستبدة ، وكل منظومات الكهنوت الديني المتحالفة مع التسلط من الد أعداء الحضارة والإنسانية والحرية والعدالة. وبالتالي محاربة الإسلاميين وإقصاؤهم ليس الحل. يكمن الحل بتقديم فكرة عمل  أولية طارئة ومقترحات قريبة وبعيدة الأمد لحلول مشاكل كثيرة جوهرية، وتجاوز  القصور والتخلف لتقديم نموذج واقعي صادق  ملبي للاحتياجات الإنسانية الكثيرة والاعتراف بحرية المعتقد وضبطه بالقانون؛ وإلا فالبديل الشعبي القطيعي الميل مع الذين يداعبون بالدين والمذهب  الغرائز والعواطف والاحتياجات، من أجل الهمنة والاستئثار بالسلطة.

    الآن تنسحب السجادة من تحت اقدام المعارضة السوريّة السياسية  لصالح  الجبهات الإسلامية  من المقاتلين على الأرض. والمشكلة مردها إلى  عجز الائتلاف والمعارضة السياسية عن استقطاب الإسلاميين الفاعلين على الأرض وعن مواكبة احتياجات الواقع،  ولجأوا إلى الإقصاء أو التحالف مع رموز تقليدية إسلامية شبيهة بعقليتهم الفوقية والاستئثارية والتحاصصية. 

    الثورة السوريّة، التي حضنتها، واقعيا، الأغلبية الإسلامية، خرجت في مواجهة الظلم السياسي والفكري والاجتماعي الذي مثله، بالمصادفة التاريخيّة،  الحكم  السياسي الاستبدادي لطائفة، مصرة على نيل حقوقها الإنسانيّة والوطنيّة والأخلاقيّة ليس فقط كأغلبيّة مضطهدة ومظلومة ومذلولة، بل كمشروع وطني وشعبي وتاريخي وإنساني.

     ليست  الثورة السورية  التي يلبسونها الإرهاب والظلامية، لكي يجري سحقها شعبيا وعربيا وعالميا، على صراع مع العلويين  كأفراد ومواطنين،  ولن تكون  ألعوبة  بيد أحزاب القاعدة والتكفيريين يحركونها كما يريدون. وليست ضد المسيحيين في الوطن، حتى وإن تقاعس جلهم وتقوقعوا في مستحاثة خوف.  هي ثورة الشعب وثورة ضميره.

    مهما حاولوا تلويثها وتدنيسها  ستظل ثورة ضد  التسلط  والإرهاب والاستبداد والطغيان، وضد  الفكر الأقلوي العنصري الذي أثبتت مجريات الأحداث مدى ضحالة مواقفه الوطنية وهول خسته. ولن تكون إلا ثورة من أجل الحرية والعدل والكرامة. اتهام ثورة الشعب السوري بالإرهاب لن يوقفها. ستستمر الثورة وستحاسب الذين كانت حساباتهم غير وطنية وغير أخلاقية وغير منصفة.