أمنُ الثورة الأمن والقرآن الكريم (5 + 6)

أمنُ الثورة

الأمن والقرآن الكريم (5)

(تأصيل شرعيّ)

نتابع استنباط "المفاهيم الأمنية" الواردة في بعض النصوص القرآنية الكريمة، لنؤكّد على أنّ "للعمل الأمنيّ" أصلاً شرعياً قوياً ينبغي أن تأخذ الحركة الإسلامية والثورة به، وتعمل على تنفيذ روحه وتعاليمه، ثم تطوّر هذا الجانب المهم من جوانب العمل الإسلامي، فضلاً عن تربية أبناء الحركة الإسلامية، على المفاهيم الأساسية للعمل الأمنيّ الإسلاميّ، الذي أصبح ركناً أساسياً من أركان البناء الحركيّ التنظيميّ لا يمكن تجاهله أو الاستغناء عنه في أي حالٍ من الأحوال.

إبراهيمُ عليه السلام: دهاءُ فردٍ مؤمنٍ يغلبُ أمّةً كافرة

الغلبة ليست بالكثرة، والحق لا يُقاس بالعدد المجرّد، إنما يُقاس بقيمة مَن يرتقي إلى مستوى العقيدة والفكرة الربانية، وبدرجة رُقيّ الأساليب المتّبعة لنصرة الفكرة وتحقيق أهدافها السامية.. وهذا ما نلمسه جليّاً في قصة النبي إبراهيم عليه الصلاة السلام.

فقد أراد عليه الصلاة والسلام، أن يهديَ قومه للتحوّل عن عبادة الأصنام، إلى عبادة الله الواحد الأحد الذي لا شريك له، ولم يستطع إقناعهم بالحوار المنطقيّ، فوضع لنفسه خطةً قام بتنفيذها وحده بأسلوبٍ أمنيٍّ بارع، لِيُقيم الحجّة على قومه: (قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (الأنبياء:56). فماذا فعل عليه الصلاة والسلام؟..

لقد قرّر أمراً في نفسه!.. وأراد أن يُكايد القومَ في أصنامهم، وكانوا يخرجون جميعاً في يوم عيدٍ بعيداً عن تلك الأصنام، ونوى إبراهيم عليه السلام التخلّف عن الخروج مع قومه إلى ذلك العيد، لأنه دبّر أمراً في نفسه!.. فتظاهر بالمرض: (فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) (الصافات:89 و90)، فتركوه وحيداً وذهبوا، وتلك كانت الخطوة الأولى في الخطة.. الخطة التي أخفاها في نفسه: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) (الأنبياء:57)!..

نعم، لقد احتفظ بالسرّ في نفسه ولم يبح به لأحدٍ من العالمين، ثم تحوّل إلى أصنامهم، وعمل فيها تحطيماً وتكسيراً إلا كبيرهم!.. الذي أبقاه سليماً لتكتمل أركان الخطة:

(فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) (الأنبياء:58).. وهكذا، فقد اختار عليه السلام الوقت المناسب بدقّة، واتّخذ لنفسه الغطاء المناسب الذي يُبرّر تخلّفه عن قومه بتظاهره بالسقم، ثم نفّذ ما يريد بذكاءٍ ودهاء، وترك كبير الأصنام سليماً، وهذا ما أظهره القرآن الكريم بوضوحٍ، حيث بيّن السبب الحقيقي لتصرّفه ذلك : (قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) (الأنبياء:62 و63).. فأُسقِط في أيدي القوم أمام هذه الهزّة العنيفة، التي كانت ثمرةً لعملٍ نُفِّذَ بأسلوبٍ أمنيٍّ كامل!.. وهيهات.. هيهات، أن ينطقَ الحجر!..

ثم يتدخل عليه السلام، لاستثمار تلك الصدمة التي واجه بها عقولَ القوم: (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)؟.. (الأنبياء:66 و67).

بهذا تعاضد الدهاء الأمني وحُنكة التعامل مع العقل البشري، لتحقيق الهدف، وهو إقناع القوم بالحجّة والبرهان، بأنّ ما يعبدون من دون الله أضعف من أن يكونوا آلهةً لهم، وأنّ مَن خَلقهم وخَلق هذه الآلهة المزعومة، هو الله عزّ وجلّ، فهو وحده الذي يستحق العبادة!.. فهي دعوة للإيمان بالله وحده لا شريك له!..

هل كان يمكن لإبراهيم عليه السلام أن يفعل ما فعل، من غير خطة حمايةٍ كاملةٍ لنفسه، وهو الرجل الوحيد الذي يواجه أمّةً كافرة؟!.. وعندما واجه قومه وكُشِف سرّه ماذا كانت النتيجة؟!..

(قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) (الأنبياء:68).

ولما همّوا لإحراقه، تدخّلت القدرة الإلهية لحمايته ونَصره على الظالمين الجبّارين الكافرين: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) (الأنبياء:69 و70).

لقد اتّخذ إبراهيم عليه السلام كل الأسباب لنصر دينه ودعوته، وعندما خرج الأمر عن حدود قدرته البشرية المحدودة، تدخّلت القدرة الإلهية العظيمة، والهدف واحد في الحالتين: الحماية، وتحقيق الأمن الكامل للدعوة وأبنائها!.. فلنتأمّل!.. ولنتدبّر!..

أمنُ الثورة

الأمن والقرآن الكريم (6)

(تأصيل شرعيّ)

نتابع استنباط "المفاهيم الأمنية" الواردة في بعض النصوص القرآنية الكريمة، لنؤكّد على أنّ "للعمل الأمنيّ" أصلاً شرعياً قوياً ينبغي أن تأخذ الحركة الإسلامية والثورة به، وتعمل على تنفيذ روحه وتعاليمه، ثم تطوّر هذا الجانب المهم من جوانب العمل الإسلاميّ، فضلاً عن تربية أبناء الحركة الإسلامية، على المفاهيم الأساسية للعمل الأمنيّ الإسلاميّ، الذي أصبح ركناً أساسياً من أركان البناء الحركيّ التنظيميّ لا يمكن تجاهله أو الاستغناء عنه في أي حالٍ من الأحوال.

موسى عليه الصلاة والسّلام : حربٌ أمنيةٌ ضاريةٌ مع الطّغاة

الحرب بين الحق والباطل ضارية في طبيعتها، لأنّ الباطل يتوهم دائماً، بما يملكه من قوةٍ ظاهرية، أنّ انتصاره من الأمور البدهية التي يصوّرها له الشيطان!.. والصراع بين أنصار الحق وأنصار الباطل هو صراع أمني في كثيرٍ من وجوهه الهامة، فإذا كان أبناء الحق وأنصاره يريدون نصر دينهم، وامتلاك أسباب هذا النصر، فعليهم أن يستوعبوا كل أسلوبٍ أمنيٍ حقيقيّ، ويطوّروا خبراتهم ووسائلهم، ليضمنوا تمكنهم من استيعاب الوجوه الأمنية للصراع، وهو من الأمور التي لا بدّ منها إن أرادوا حسم الصراع لصالح الحق والدعوة الإسلامية. وقصة موسى عليه السلام تُعتبر مثالاً واضحاً على ما نقول!..

فهناك باطل وظلم يتمثّل في الطاغية فرعون: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:4).. وبالمقابل، هناك حق وعدل وحكم بمنهج الله عزّ وجلّ يتمثّل في دعوة النبي موسى عليه السلام: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (القصص:43).

لقد بدأ الصراع بوجهٍ أمنيٍ واضح، حيث أراد الله سبحانه وتعالى أن يعلّمنا منه دروساً أمنيةً بالغة الدقّة والدلالة: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (القصص:7).. فالله عزّ وجلّ أراد أن يكون موسى عليه السلام، حاملَ لواء الحق، وزعيمَ الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فَحَمَاه منذ الولادة بأسلوبٍ أمنيٍ نفّذته أم موسى، بعد أن ألهمها الله أن تفعل ما تفعل لحماية وليدها الحاليّ، وزعيم الدعوة الربانية في المستقبل!.. وكانت كيفية الحماية لا تخلو من الدقّة والمخاطرة في الوقت نفسه: (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طـه:39) ..

والله جلّ وعلا الذي ألهم أم موسى تنفيذ الشقّ الأول من خطة الحماية.. سَخّر امرأة فرعون لتنفيذ الشقّ الآخر من هذه الخطة: (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (القصص:9).

وكان من تدبير الله عزّ وجلّ وعظيم حكمته، أن يُرَبّى موسى عليه السلام في حِجْر فرعون، فكان هلاكه وزوال طغيانه على يديه عليه الصلاة والسلام!.. ولعلّنا نلمس كم يحتاج تنفيذ هذه الخطة الأمنية الدقيقة الطويلة، إلى الصبر والحنكة والحكمة والسرّية والحسّ الأمنيّ العالي المُرهف.. أليست هي الخطة التي بموجبها تنبت بذرة الحق في أرض الباطل وتربته؟!..

وتستمر الخطة الأمنية الرائعة، فترسل أم موسى ابنتها لتكون عَيناً ترصد تصرفات فرعون وأسرته، وتَتّبِع أثر أخيها موسى وتتقصّى أخباره: (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ..) أي: تقصّي أخباره.. (القصص: من الآية 11).. فماذا فعلت أخت موسى عليه الصلاة والسلام؟!.. هل تصرّفت بما يلفت الانتباه إليها وإلى خطّتها ومبتغاها؟!..

(..فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (القصص: من الآية 11).. نعم، فقد احتالت على الظرف المحيط، فاستطاعت رؤية أخيها بمخاتلةٍ ذكيةٍ من غير أن يشعرَ بها أحد من الأعداء أو أن يشعر أحد من الظالمين، أنها أخت موسى، وأنها تقوم بالاستطلاع ورصد أخباره بكل دقة!..

وعندما منع الله موسى أن يرضعَ من المرضعات: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِع..) (القصص: من الآية 12).. عندئذٍ تدخّلت الأخت في الظرف المناسب والوقت المناسب: (.. فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ)؟!.. (القصص: من الآية 12).. يقول ابن عباس: (لما قالت أخته: وهم له ناصحون، أي: مشفِقون، شكّوا في أمرها وقالوا: وما يدريكِ بنصحهم وشفقتهم عليه؟!.. فقالت: لرغبتهم في سرور الملك!.. فأطلقوها)!..

وهكذا فابن الدعوة الإسلامية حصيف ذكيّ، يعرف كيف يتصرف في المواقف كلها، ويعرف كيف يخرج من المآزق بكل دهاءٍ وحنكةٍ.. كما فعلت أخت موسى عليه الصلاة والسلام!..

وكان تأييد الله عزّ وجلّ حاضراً بأبهى صُوَرِهِ وأبلغ آثاره: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (القصص:13).. فلما قَبِلَ موسى ثدي الأم، أحسنت إليها امرأة فرعون وأَجْرَتْ عليها النفقة والكساوي -كما قال ابن عباس-.. فكانت تُرضع ولدَها، وتأخذ عليه الأجرَ من عدوّه!..

إنه تدبير الحكيم العليم الذي ينصر عباده الصالحين، ويؤيّد المجاهدين العاملين في سبيله إلى يوم الدين، بعد اتخاذهم أسباب القوّة والمنعة المعنوية والمادية!..

ويستمر السير في طريق الدعوة الربانية بثبات، ويستمر -نتيجة ذلك- تأييد الله عزّ وجلّ للمؤمنين الصادقين، فيكبر موسى عليه السلام، ويترعرع، ويشتدّ عوده، ويقوى.. أين يحدث كل ذلك؟!.. في ظل عدوّه الطاغية: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (القصص:14).

ولما عرف موسى أنّ الحقَّ في دينه، عاب ما عليه قوم فرعون من عبادة غير الله عزّ وجلّ، ففشى أمره بين القوم، فأخافوه، فخاف منهم.. وهذا ما أدى إلى اتّباعه أسلوباً أمنياً صرفاً في التعامل مع الباطل وأهله، ليحميَ نفسه ويحميَ دعوته: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا..) (القصص: من الآية 15).. أي أنه عليه السلام، كان يدخل مدينة مصر الكبرى مستخفياً: (عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ) -كما قال المفسِّرون-.. فانظر إلى هذا التعبير القرآنيّ العميق!.. وانظر إلى ذلك الأسلوب الأمنيّ الدقيق، الذي اتّبعه نبي الله موسى عليه صلوات الله وسلامه! ..

ويُمتَحن عليه السلام امتحاناً آخر، فيقتل رجلاً من قوم فرعون بلا قصدٍ، وتشتدّ المحنة.. ويلجأ موسى إلى ربه: (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (القصص:16).. ثم يتخذ ما يجب عليه من أسباب الحماية والحذر، ويخبره أحد المتعاونين معه من المخلصين له، بسرٍّ خطير، هو تآمر القوم لقتله: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (القصص:20).. وما كان منه عليه السلام إلا أن امتثل لما يقتضيه الظرف من حوله، بهدف حماية نفسه، وحماية دعوته إلى الله عزّ وجلّ: (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (القصص:21).

لعلّنا نلاحظ روعة التعبير القرآنيّ، عن حالة الهارب المهاجر في سبيل الله، الذي يَحْذَرُ العدوَّ ويتيقّظ له: (..خَائِفاً يَتَرَقَّبُ..)، ومن ثم الاتكال على الله سبحانه وتعالى، فهو وحده الحامي، والملاذ الآمن: قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ..)!..

وتستمر الدعوة إلى الله عز وجل، بحمايته سبحانه وتأييده، ويعود موسى عليه السلام إلى فرعون وقومه بعد سنين طويلة، يحمل الدعوة في قلبه ويُبشّر بها بلسانه، ويفديها بروحه، ويرفع لواءها بشجاعةٍ لا مثيل لها.. ويعود الصراع مع الباطل إلى ذروته، وينوي الطاغية فرعون قتل موسى عليه السلام، وهو شأن كل الطواغيت الذين يفلسون من كل حجّةٍ وبرهان، ولا يجدون إلا البطش وسيلةً لإسكات صوت الحق: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) (غافر:26).

ويُظهِر لنا القرآن الكريم الوجه الأمنيّ للصراع بكل وضوح: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ..) (غافر: من الآية 28).. ثم يقول الرجل المؤمن عن موسى عليه السلام: (..وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (غافر: من الآية 28).. ولعلّنا نلاحظ التعبير القرآنيّ الدقيق، في الدلالة على الحالة الأمنية للصراع: (..يَكْتُمُ إِيمَانَهُ..)، فالرجل المؤمن بالله عزّ وجلّ وبدعوة نبيّه موسى عليه السلام.. في الحقيقة، هو من مؤيدي فرعون، في الظاهر وحسب: (..وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ..)!.. هذا الرجل الذي يُخفي إيمانَه، يخترق القوم ويعلم بكل ما يدور بينهم، ثم يعمل على تخذيلهم عن موسى عليه السلام، وعن أنصار الحق، وبأسلوبٍ أمنيٍ بارعٍ لا يتقنه إلا أصحاب القضية المنافحون عنها، الذين يبذلون ما يستطيعون من طاقاتهم في سبيل حماية دعوتهم. هذه الحماية التي تكفل الاستمرار في السير على الطريق الشاقة، لبلوغ الهدف الكبير!..

فالسرّية، والكتمان، والاختراق، والرصد، والتنسيق مع القيادة وأولي الأمر لحماية الدعوة وتأمين سيرها الحثيث نحو أهدافها،.. كل ذلك من أهم الأساليب الأمنية التي ينبغي أن يتسلّح بها أبناء الحركة الإسلامية والثورة، فهل نعقل؟!.. وهل نفعل؟!..

وبفضل هذا الإتقان في استيعاب استحقاقات الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والعمل بموجبها بأقصى طاقةٍ ممكنة.. ينصر الله عزّ وجلّ المؤمنين به، العاملين في سبيله.. وهكذا نصر الله سبحانه جلّ وعَلا موسى عليه السلام على الطغيان والظلم والجبروت: *(فَأَخَذْنَاهُ [ أي فرعون] وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (القصص:40).. وانتهت بذلك قصة صراعٍ مريرٍ طاحنةٍ ضاريةٍ.. بين الحق والباطل، كان ركنه الأساس صراعاً أمنياً.. فلنتأمّل!.. ولنتدبّر!.. ولنتعلّمّ!.. ولنعمل!..

- يتبع إن شاء الله.

وسوم: العدد 1008