اليابان وألمانيا تتسلحان

من أهم عناصر النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية كان تقزيم الدور العسكري والدبلوماسي لكل من اليابان وألمانيا. غير أن التطورات التي يشهدها العالم خلال السنوات الأخيرة، خاصة بعد الحرب الروسية – الأوكرانية، تدفع البلدان إلى التخلي عن هذا الالتزام نحو تعزيز صناعتيهما العسكرية، وهو مؤشر قوي ضمن مؤشرات أخرى على نهاية النظام العالمي الموروث عن الحرب الكبرى.

واتفقت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية على اليابان وألمانيا، بمراقبة الصناعة العسكرية لبرلين وطوكيو، ثم الحد من سياستيهما العسكرية مقابل دعمهما في تطوير الصناعة المدنية، وهذا ما يفسر تفوق البلدان في صناعات السيارات والمعدات الطبية والمنزلية. وأصبحت الدولتان تعيشان تحت الانتداب العسكري الغربي، خاصة الأمريكي، ويكفي رؤية نسبة القواعد العسكرية الأمريكية الكثيرة التي ما زالت توجد الآن فوق أراضي البلدين.

في حالة ألمانيا، يتوفر البنتاغون في رامشتاين على قاعدة جوية كبيرة تُعد أساسية لأي تدخل في مناطق الشرق الأوسط مثل، أفغانستان والعراق وسوريا، ثم القارة الافريقية. وفي لاندشتول تدير القوات الأمريكية مستشفى عسكريا كبيرا. وفي فيسبادن وشتوتغارت توجد مراكز قيادة للتدخلات في افريقيا وأوروبا. وفي غرافينفور يوجد أكبر موقع تدريبات لحلف الناتو. وفي راينداليم يتمركز سرب طائرات «أف 16» وانضافت إليها «أف 35» وقاذفات استراتيجية. وإذا كان الحديث عن نهاية النظام العالمي الجديد الذي ظهر بعد سقوط جدار برلين وانهيار المعسكر الشيوعي، أي بداية التسعينيات، يتجلى في ظهور الصين كقوة فاعلة في العلاقات الدولية اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، يبقى الانهيار الرمزي للنظام العالمي القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، هو عودة اليابان وألمانيا إلى التسلح من جديد، وتطوير صناعة عسكرية لتحقيق الدفاع الذاتي. وهذا يعني التقليل من الاعتماد على الحلف الأطلسي في حالة ألمانيا، ومن الاعتماد على الولايات المتحدة في حالة اليابان، ورغم وجود دول وسط تكتلات عسكرية مثل الحلف الأطلسي، تفضل بعضها الرهان كذلك على نفسها مثل حالة فرنسا وبريطانيا ونسبيا إيطاليا. ويبدو أن اليابان وألمانيا سائرتان في هذا الاتجاه. وهكذا، من مخلفات الحرب الروسية – الأوكرانية قرار ألمانيا التحول إلى قوة عسكرية كبيرة وسط الاتحاد الأوروبي والغرب. في هذا الصدد، كان المستشار الألماني أولاف شولتس قد أعلن في برلمان بلاده تخصيص صندوق بميزانية مئة مليار يورو لتطوير الصناعة العسكرية، وبالفعل صادق البرلمان على الميزانية بداية يونيو الماضي، وهي تنضاف إلى ميزانية الدفاع الكلاسيكية التي ستصبح الآن 70 مليار يورو سنويا، لتكون ضمن الخمس الأوائل في العالم، بعد الولايات المتحدة والصين وروسيا واليابان. وهذا المبلغ المالي الضخم الذي سينفق خلال السنوات المقبلة سيكون رهن إشارة الباحثين الذين سيحاولون تطوير العتاد العسكري الذي تقوم ألمانيا بتصنيعه مثل، الدبابات ومنظومة الصواريخ والغواصات، أو صناعة عتاد جديد مثل الصواريخ فرط صوتية. وكان المستشار في تبريره للميزانية واضحا بقوله «بهجومه على أوكرانيا، لا يهدف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلغاء دولة من الخريطة، بل ضرب بنية الدفاع الأوروبية». وتعترف برلين بأنها مجبرة على التوجه الجديد بعدما لم تسفر محاولات الحوار مع موسكو طيلة الثلاثين سنة الأخيرة عن نتائج مقبولة. وفي الجانب الآخر من العالم، في الساحل الهادئ الآسيوي، وهي منطقة المستقبل نظرا للصراع الصيني- الأمريكي، أقدمت اليابان الأسبوع الماضي على إصدار ثلاثة وثائق خاصة بالدفاع، في منعطف تاريخي بعد الحرب العالمية الثانية. وتنص الوثائق على ضرورة التسلح للدفاع عن وحدة الوطن، بما في ذلك التوفر على صواريخ لمهاجمة «القواعد الأجنبية العدوة». وهذه أول مرة بعد الحرب العالمية الثانية تشير وثيقة عسكرية يابانية إلى مهاجمة أطراف خارج حدود البلاد. في الوقت ذاته، تنص العقيدة العسكرية الجديدة «استراتيجية الأمن القومي» على التنسيق مع الدول «التي تتقاسم مع اليابان الأهداف والمبادئ نفسها مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وفرنسا وبريطانيا والهند وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا ضمن دول أخرى». وتشمل العقيدة العسكرية الجديدة الاستراتيجية التي تشمل كلا من الاقتصاد والسياسة والدفاع والحرب السيبرانية. ولا تتحدث الوثائق مباشرة عن الصين، لكنها تلمح إليها بشكل واضح، ويمكن اختزال هذه الوثائق في العلاقة بالخطر الذي تشكله بكين على طوكيو في: كيفية التعامل مع الصين الآخذة في الصعود؟ ثم كيف ستدافع اليابان ضد الصعود العسكري السريع للصين؟ ما مقدار القدرة الدفاعية وميزانية الدفاع التي ستحتاجها اليابان لمواجهة الصين؟ هذه هي الأسئلة الأساسية في الوثائق. وكانت استراتيجية الأمن القومي الياباني لسنة 2013 قد ألمحت إلى الصين بأنها «مصدر قلق»، لكنها في الاستراتيجية الجديدة سنة 2022 يتم وصفها بالتحدي الكبير لليابان. وكان موظف سام في الدفاع قد صرح بأن «الصين هي أكبر تحد استراتيجي في تاريخ اليابان، وهذا تعبير له دلالة كبيرة للغاية.

لقد غيرت ألمانيا واليابان من دستوريهما للسماح للقوات العسكرية بالمشاركة في العمليات العسكرية في الخارج، وأقنعتا الرأي العام الداخلي بضرورة التسلح، والآن تسيران نحو الإنتاج الحربي لتعزيز القدرات الذاتية في الدفاع العسكري. وعلاقة بالنقطة الأخيرة، يمتلك البلدان قاعدة صناعية علمية متطورة، ستمنحهما اقتحام الصناعة العسكرية بشكل سينافس دولا مثل روسيا والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا. ولا يقلق التوجه الجديد لألمانيا، روسيا لوحدها، بل كذلك شركاء غربيين، خاصة فرنسا وبريطانيا. عموما، كل هذه التغيرات الجيوسياسية، خاصة في حالتي ألمانيا واليابان، تبرز ليس فقط نهاية النظام العالمي الموروث عن انهيار جدار برلين، بل عن الحرب العالمية الثانية.

وسوم: العدد 1011