استشراق فرنسي: ماذا تعني إعادة هيكلة الإسلام؟

«الإسلام دين يعيش في أزمة في كل مكان في العالم» كان ذلك هو التصريح الذي أطلقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2020، والذي تابع فيه انتقاداته لما سماه «الانعزالية» و»الانفصال الإسلامي» داخل المجتمع الفرنسي. أثارت هذه التصريحات، التي ربطت في جزء منها الإسلام بالتطرف والإرهاب، عاصفة من الغضب بين المسلمين، داخل فرنسا وخارجها، وتلقى ماكرون بسببها انتقادات واسعة أجبرته على أن يعمل على مدى العامين التاليين على شرح وتبرير مقاصده. اعتبر كثيرون أن لماكرون موقفاً شخصياً ضد الإسلام، حتى أنهم تمنوا في البداية خسارته في الانتخابات، قبل أن ينتبهوا إلى أن من منافسيه من هم أكثر صراحة ومباشرة في الهجوم على الإسلام وعلى المهاجرين.

الحقيقة هي أن موقف ماكرون لم يكن نشازاً داخل مراكز السلطة الفرنسية، حيث رأينا كيف استغلت السلطات حادثة مجلة «شارلي إيبدو» الشهيرة من أجل تأليب الرأي العام ضد المسلمين، عبر تصريحات كتصريح وزير الداخلية حول «الحرب على الإرهاب الإسلامي». البرلمان الفرنسي أيضاً لم يكن بعيداً من هذه المعركة، حيث اتجه لسن قانون يجرّم استنكار فعل معين، إذا ما كان هذا الاستنكار يعرض حياة صاحب ذلك الفعل للخطر، وهو اتجاه كان يعني أن استنكار أفعال مثل الإساءة إلى النبي، عليه السلام، ولو على صعيد وسائل التواصل الاجتماعي، لن يكون مقبولاً. مثل هذه التصريحات والإجراءات، التي كانت تضع المسلمين في دائرة الاتهام، وتجعل كل إساءة لهم ولدينهم سهلة التمرير، كانت تتجاهل وجود الملايين من المسلمين المسالمين داخل البلاد، من الذين عاشوا بإيجابية وساهموا في نهضة فرنسا، كما كانت تتجاهل الأخطار، التي كانوا يتعرضون لها بسبب ذلك الجو المشحون بالعداء والدعاية ضدهم، لدرجة قول البعض إنه لا ضير في «إرهاب الإرهابيين». أما الرئيس إيمانويل ماكرون فيمكن النظر لسياسته «الإسلامية» كامتداد لسياسة الرئيسين السابقين نيكولا ساركوزي وفرانسوا أولاند، حيث تذكر كلمته حول «إعادة هيكلة» الإسلام الفرنسي بتأسيس أولاند لمؤسسة «الإسلام في فرنسا»، التي كان يطمح بواسطتها لأن يخلق نسخة محلية من الإسلام، تكون متصالحة مع الثقافة والقيم الفرنسية، تحت مسمى فضفاض هو «الاندماج»، الذي سينهي الانشقاقات الاجتماعية. على الرغم من مرور سبع سنوات من تأسيس مؤسسة الإسلام الرسمية، ومن حديث ماكرون عن إعادة «هيكلة الإسلام»، إلا أن تلك الجهود لم تسفر عن أي تقدم، ولم ينتج عنها سوى مزيد من التوتر بين المسلمين الفرنسيين والسلطات، التي رأوا أنها تستهدفهم. حدث هذا في أجواء كانت مساحة الحرية الدينية للمسلمين تتقلص فيها، وكانت مقار عبادتهم ضحية لهجمات متكررة، سواء عبر اعتداءات متطرفين، أو عبر قرارات غير مفهومة بإغلاق مساجد أو رفض منح تصاديق لأخرى جديدة. كانت خطة خلق مرجعية محلية تهدف للاستغناء عن الأئمة ومراكز الإفتاء الموثوقة في العالم الإسلامي، كما كانت تهدف للتحكم في الحراك الدعوي الداخلي وهو ما كان معاكسا لما كان سائداً سابقاً، من ترك شؤون الجالية المسلمة حتى تكون تحت رعاية من يقع عليه الاختيار من أبنائها بلا تدخل. بدأ عبر هذه الخطة تصدير نخبة جديدة من الأئمة، الذين يظهرون برفقة مسؤولين فرنسيين، ويعملون على إعطاء أولية للقانون والعرف الاجتماعي الفرنسي. لم ينجح ذلك، على الرغم من النفقات التي تم صرفها على «تكوين» الأئمة «المعتدلين»، حيث ظلت الغالبية من المسلمين على ولاءاتها السابقة لمرجعياتها الدينية، سواء في ذلك الداخلية، أو التي من خارج الحدود. ساهم في تثبيت تلك الولاءات إمعان بعض الأئمة الحداثيين في تعمد الظهور بمظهر المؤيد للسياسة ولقرارات الحكومة الفرنسية، ولو على حساب ما تعتبره الغالبية ثوابت الدين.

في سياسته لاحتواء التمدد الإسلامي، يبدو ماكرون مقتنعاً بالأيديولوجيا اليمينية، التي ترى في الإسلام تهديداً يجب تحجيمه، كما أن الرئيس الفرنسي لا يخفي تأثره وعلاقته بمستشرقين مثل جيل كيبل، الذي بات مقرباً لديه لدرجة جعله المستشار، الذي لا يستغني عن صحبته في رحلاته للعالم العربي. جيل كيبل أظهر اهتماماً ببلدان المشرق منذ سبعينيات القرن الماضي، كما اهتم، بجانب دراسته للغة العربية والدين الإسلامي بالتخصص في سياسة المنطقة وتاريخها. تشمل سيرة كيبل الذاتية فترات من الاستقرار في دمشق والقاهرة مكنته من التعمق بشكل جيد في فهم الحركات الإسلامية، من حيث النشأة والتطور، كما ساهمت في تطوير موقفه حول الإسلام في فرنسا. جعل كل ذلك كيبل خبيراً موثوقاً لدى النخبة السياسية، وبالمقارنة مع مستشرقين فرنسيين معاصرين آخرين، كأوليفيه لو روا أو فرانسوا بورغا أو جان بيير فيليو أو ميشيل أونفري، يبدو جيل كيبيل، الذي يذكر بمنهج الاستشراق الاستعماري المهووس باحتواء الإسلام، الأقرب لتصورات السلطة حول «المسألة الإسلامية»، أو لعل السلطة هي من تتبنى روايته، خاصة في ما يتعلق بأسباب ودوافع العمليات الإرهابية، وضرورة مواجهة الحركات الإسلامية والإخوانية، التي استفادت، في نظره، من الحرية والرعاية التي وجدتها في الدول الأوروبية، من أجل التحضير للانقلاب على هذه المجتمعات مهددة أمنها. نقاد هذه النظرة يرون أنها لا تحل مسألة «الانفصالية الإسلامية» بقدر ما أنها تعمقها باستهدافها المسلمين وتقنين التمييز ضدهم عبر مراقبة نشاطاتهم ودور عبادتهم. بالفعل لم يكد ينتهي الجدل الدائر حول حظر الحجاب في المؤسسات العامة، حتى بدأ جدل آخر حول «تكوين» العلماء وتدخل الدولة الفرنسية في تعيين الخطباء وأئمة المساجد وإجبارها الجمعيات على التوقيع على تعهد «احترام قيم الجمهورية»، وهي عبارة فضفاضة لدرجة أنها كفيلة بوضع أي منشط غير مرضي عنه تحت التهديد.

ردود الأفعال حول الخطاب الفرنسي المعادي للإسلام كانت كثيرة، لكن مقال جوزيف مسعد، الأستاذ في جامعة كولومبيا الأمريكية، كان من أكثرها تماسكاً وموضوعية في تحليله، حيث اعتبر أن هذه النظرة، التي تضع الإسلام والمسلمين في مرتبة العدو، ليست جديدة وليست محصورة في السياسيين المعاصرين، وإنما تضرب بجذورها في التاريخ. يقدم مسعد بهذا تفسيراً مختلفاً للتشدد الفرنسي الحالي، فهو لا يرى فيه مجرد نتاج لأزمة المهاجرين الطارئة، أو لتزايد أعداد المسلمين في الدول الأوروبية، وإنما يرى أنه أمر ظل على الدوام موجوداً منذ القرون الوسطى. التطرف الفرنسي المسيحي الرسمي وغير الرسمي، وفق مسعد، يتستر تحث مظلة العلمانية من أجل الهجوم على الإسلام والمسلمين، ويشير مسعد في هذا إلى الأعداد الكبيرة والمتصاعدة للاعتداءات المسجلة بشكل رسمي. ينبه مسعد كذلك إلى أن هناك اختلاطاً في المفاهيم ما بين التطرف والإرهاب والعلمانية، ويستشهد بتصريح وزير الداخلية الفرنسي في عهد ماكرون كريستوف كاستانير، الذي ربط فيه بين اللحية والمداومة على الصلوات، والحرص على أكل «الحلال» وبين الإرهاب وهو ما يعيدنا مرة أخرى للتساؤل حول ما يقصده الفرنسيون من الدعوة لإندماج المسلمين. وجدت فرنسا في أجزاء واسعة من العالم الإسلامي، بشكل مباشر أو غير مباشر، على مدى أكثر من قرن وكان مشروع «إعادة هيكلة الإسلام» على رأس أولوياتها، فهل يمكن أن تنجح اليوم فيما فشلت فيه سابقاً، خاصة على صعيد تثبيت نسخة جديدة من الإسلام تكون أكثر علمانية وانفتاحاً وتصالحاً مع ما تعتبر أنه قيم الجمهورية؟

وسوم: العدد 1024