(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)

(الكافرون 6)

فادي عبد اللطيف

يستدل بعض الكتّاب والباحثين بهذه الآية للدلالة على أن الإسلام لا يرفض الأديان الأخرى، ولا يطالب أصحابها بترك أديانهم الباطلة أو المحرّفة واعتناق دين الإسلام، بل يقرّهم على ما هم عليه من ضلال وتحريف، ويخلطون بين دعوة الناس لترك عقائدهم وأديانهم، طوعاً، واعتناق الإسلام عن رضى واختيار، وبين إرغامهم على ذلك بالإكراه والإجبار. وهناك من يرى في الآية دليلاً على أن الإسلام أمرنا بترك أصحاب الأديان الأخرى وشأنهم، ونهانا عن التعرض لعقائد غير المسلمين بنقضها وبيان فسادها ولو تعلق الأمر بدعوتهم للإيمان بالإسلام. كما يكثر الاستشهاد بالآية الكريمة المذكورة في سياق الحديث عن حوار الأديان لتبرير القبول بـ "الآخر" أي غير المسلم، أو بمعنى أدق القبول بالأديان والعقائد الأخرى والاعتراف بأن لها وجها من الحق ونسبة من الحقيقة.

إن هذه الآية يدل منطوقها على أن المخاطِب (بالكسر) أي الرسول عليه السلام، له دين، وأن المخاطَبين (بالفتح) أي الكافرون لهم دين آخر، وأن دين الرسول يختلف عن دين الكافرين من مشركي مكة. وهي لا تدلّ على غير ذلك بوجه من الوجوه، وما سبقها يؤكد هذ المعنى. فالسورة تستهل بأمر الرسول بمناداتهم: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾، وهو إعلان صريح بأنهم على دين كفر، ثم يتبع ذلك نفي التقاء أي شكل من أشكال العبادة من كلا الطرفين، لا حاضراً ولا مستقبلاً ﴿ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ .. ﴾. فهل بعد هذا البيان ما هو أبلغ وأفصح في الدلالة على أن الإسلام، ديناً وعبادة، لا ولن يتوافق مع الكفر؟

ثم إن الاستدلال بالآية على قبول الأديان الأخرى وإقرار أصحابها على كفرهم وإظهار الرضا عن تمسكهم بدينهم لم يرد في قول أحد من المفسرين، وقد لخص القرطبي أقوال المفسرين فقال: " ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ فيه معنى التهديد؛ وهو كقوله تعالى ﴿ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾ (القصص 55)، أي إن رضيتم بدينكم فقد رضينا بديننا، وكان هذا قبل الأمر بالقتال، فنسخ بآية السيف. وقيل: السورة كلهامنسوخة، وقيل: ما نسخ منها شيء لأنها خبر". فقوله تعالى ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ ليس فيه معنى الإذن للكافرين بأن يعتقدوا ما يشاؤون من الأديان، وهل لبعث الرسل والأنبياء من غاية سوى حمل الناس على ترك ضلالاتهم، وأمرهم باتباع هدي ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ (النحل 36). وجاء في تفسير الرازي: "فإن قيل: فهل يقال: إنه أذن لهم بالكفر. قلنا: كلا فإنه عليه السلام ما بعث إلا للمنع من الكفر فكيف يأذن فيه". وقال البيضاوي في تفسيره: "فليس فيه إذن بالكفر ولا منع عن الجهاد ليكون منسوخا بآية القتال، إلا إذا فسر بالمتاركة وتقرير كل من الفريقين الآخر على دينه". وهو فهم دقيق يستحق التأمل!

ومن جانب آخر، فإن ما ورد في سبب نزول السورة ليؤكد أن لا دلالة فيها على إقرار الرسول عليه السلام المشركين على كفرهم، بل إن الروايات الواردة في سبب نزول السورة تدل على العكس تماماً، فهي تفيد أنه عليه السلام رفض العروض التي قدمها له زعماء قريش لكي يتركهم وشأنهم، أو على أقل من ذلك، وهو التوقف عن عيب دينهم وتسفيه آلهتهم. أخرج الطبري عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما: "أن قريشا دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء، فقالوا: هذا لك يا محمد، وكف عن شتم آلهتنا، ولا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل، فإنا نعرض عليك خصلة واحدة، ولك فيها صلاح، قال: ما هي؟ قالوا: تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، قال: حتى أنظر ما يأتيني من ربي، فجاء الوحي من عند الله: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ إلى آخر السورة، وأنزل الله: ﴿ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ﴾ إلى قوله: ﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ (الزمر 64،66)". وواضح أنه عليه السلام كان يشتم آلهتهم ويذكرها بسوء، وأن زعماء قريش كانوا يساومونه بالإغراءات والتنازلات، فجاء أمر الله إليه بالرد رداً بيّناً حاسماً، ونعتهم بالجهل علانية لفساد تفكيرهم وظنهم بأن الإسلام ورسوله قد يساوما ويتنازلا، أو يقبلا تقاسم كيان الإنسان ونظام الحياة مع الكفر وأهله!

ويجدر هنا التنبيه إلى أن الآية المذكور ليست في معرض بيان موقف الإسلام من الأديان الأخرى، فقد جاءت نصوص أخرى في القرآن والسنة تدل دلالة صريحة قاطعة على موقف الإسلام من الأديان والعقائد الأخرى، منها قوله تعالى ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ (آل عمران 85). وكذلك جاءت نصوص خاصة بينت موقف الإسلام من غير المسلمين ممن يعتنقون أدياناً منسوخة محرفة، أو عقائد وفلسفات وضعية باطلة؛ قال عليه السلام: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» (رواه مسلم).

على أن معنى كون الإسلام لا يكره أصحاب الأديان على ترك عقائدهم ولا يجبرهم على اعتناق الإسلام ليس قبولاً بما يعتقدونه، ولا إقراراً بأن له وجهاً من الصحة أو نسبة من الحقيقة. فإن الحق هو الإسلام لا غير، قال تعالى ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ﴾ (يونس 32)، ولعلّ في رواية الطبري الأخرى في سبب نزول السورة ما يوضح المعنى، حيث ورد فيها أن زعماء قريش قدموا للنبي عليه السلام عرضاً يقوم على نسبية الحق بين دينهم ورسالة الإسلام التي بعث بها، وهذا نص الرواية: "لقي الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأمية بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا محمد هلم، فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشترك نحن، وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي نحن عليه أصحّ من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظاً، وإن كان الذي أنت عليه أصحّ من الذي نحن عليه كنا قد أخذنا منه حظاً، فأنزل الله: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾ إلى آخر السورة". وهكذا، فقد جاءت السورة رداً قاطعاً تثبت كفرهم وتنفي أي شكل من أشكال الإلتقاء في الدين أو العبادة بين الإسلام والكفر، حاضراً أو مستقبلاً.

ولو فرضنا، جدلاً، أن قوله تعالى ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ هو من المتشابه الذي فيه احتمال أن يفهم أو يؤول على عدة أوجه، فقد جاء كتاب الله بآيات محكمات تقطع في المعنى وتنفي وجه الاحتمال، وكما هو مقرّر في أصول الفقه فإن "المتشابه يحمل على المحكم"؛ ومن الآيات المحكمات في هذا الموضوع قوله تعالى ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ (آل عمران 85)، وقوله عزّ وجلّ ﴿ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ﴾ (الفتح 13)، وقوله تعالى ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ (الصف 9).

بقيت مسألة، وهي: كيف كان نهج الرسول، عليه السلام، العملي تجاه الكفار من مشركي العرب والعجم، واليهود والنصارى، في مرحلة الدعوة قبل الهجرة في مكة، وفي مرحلة الحكم بعد الهجرة في المدينة؟ لقد بيّنت السنة بوضوح كيف كان عليه السلام يجادل المشركين واليهود والنصارى ويدعوهم لترك أديانهم والإيمان به وبرسالته. وحين أقام عليه السلام الدولة الإسلامية في المدينة شرع أحكام أهل الذمة التي تضمن لغير المسلمين عدم تعرضهم للإكراه في معتقداتهم وأديانهم، فقد روي عنه عليه السلام أنه قال: «مَنْ كَانَ عَلَى يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ ، فَإِنَّهُ لا يُفْتَنُ عَنْهَا» (رواه البيهقي في سننه وأبو عبيد في الأموال). ولذا فإن الدولة الإسلامية تقبل أن يعيش تحت سلطانها من لا يؤمن بالإسلام، وذلك لأن نظام الإسلام الذي تطبقه الدولة الإسلامية هو تشريعات ومعالجات تتعلق بالإنسان من حيث هو، أفرادا وجماعات، بغض النظر عن الدين والمعتقدات، والأحكام الشرعية هي لتنظيم العلاقات بين جميع الناس وليس بين المؤمنين به فقط. ولذلك فهي ـ أي الدولة ـ ترعى شئون جميع الرعايا وتحفظ حقوقهم، دون تمييز في شؤون القضاء والصحة والتعليم والأمن والنفقة، وتضمن لهم ممارسة شعائرهم الدينية وفق الأحكام الشرعية ضمن النظام العام. وهي بوصفها دولة إسلامية تعتبر الطريقة العملية لدعوة غير المسلمين من أهل الذمة وغيرهم للإسلام، بدعوتهم بالبيان والمقال وواقع الحال، ليشاهدوا عظمة نظام الإسلام، ويلمسوا عدالة تشريعه، ويدركوا سمو عقيدته، مصداقاً لقوله تعالى ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ (التوبة 6).