الرّوحُ المعنويةُ، ودَوْرُ القِيَم الإيمانية في الإنجاز الـمُثمِر (2)

مَــدخَـــل الحلقة (2)

انتهينا في الحلقة السابقة (1) إلى النتيجة الآتية:

إنّ الأمة أو المؤسّسة أو الحزب أو الجماعة، التي لا تملك الخبرات أو الكفاءات أو القدوات.. أو التي تملكها وتُطيحُ بها أو تعزلها أو تجمّدها وتُهمّشها، لاعتباراتٍ طائفيةٍ أو حزبيّةٍ أو طرفيةٍ أو شُلَليةٍ أو شخصيةٍ.. أو غيرها، على حساب المصلحة العامة، وتختار للمواقع المتقدمة: الطائفةَ أو الحزبَ أو الطرفَ أو الشُلّةَ أو الأشخاصَ الجهلةَ العاجزين الفاشلين، الذين يفتقرون إلى الخبرة أو الكفاءة أو إلى صفات القدوة المؤهَّلَة.. هذه الأمة أو المؤسّسة أو الحزب أو الجماعة، لن يكون مصيرها إلا الفشل والعجز والخيبات، ثم تنتهي إلى الهزيمة والاندحار والانكسار، وإلى الدّمار الشامل والاضمحلال، في الدنيا.. ومن ثَمّ إلى الحساب العسير في الآخرة، بقدر درجة التفريط، ودرجة اتّباع الأهواء المتقلَّبة، وبدرجة حرص الجُناة الأغبياء التافهين (الذين يَسْطُون على مراكز القرار، بالاحتيال والتلاعب والاستغلال لمواقعهم والعبث غير الأخلاقيّ.. بدرجة حرصهم على المصالح الشخصية الضيّقة، أو على الأهواء الشيطانية الساقطة المتهافتة، وإغفال متطلّبات النجاح أو أدوات النصر وموجبات تحقيق المصلحة العامة للأمة أو للقضية. هؤلاء لن يحققوا إلا الانهيارات المؤلمة للمؤسّسة أو للأمة، ولجميع مَن فيها، على كل صعيد.

فاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَار.

ونتابع في هذه الحلقة (2)، فنقول:

*     *     *

ثانياً: الإيمان والإنجاز

الإنسان المسلم المؤمن الحقّ، يملك قوةً لا مثيل لها، لتحقيق الإنجازات، وأعظم الإنجازات في التاريخ الإسلاميّ، صنعها أقوى وأعظم الرجال إيماناً!..

والرجل الأقوى إيماناً هو الأعلى روحاً معنويةً، والروح المعنوية العليا بدورها، ستُفضي إلى الإنجاز الأعظم في أعلى الدرجات.

وكلّما استحكم الإيمان من قلب الإنسان وعقله، تُرجم ذلك إلى أعمالٍ وإنجازاتٍ في الحياة الواقعية العملية، فالإيمان الحقّ يفعل في النفس البشرية ما لاتفعله أية قوةٍ أخرى، فيسير المؤمن الحق بشموخٍ لا مثيل له، تحكم سلوكَه دوافعُ إيمانية عظيمة، تسمو بروحه المعنوية في كل الأحوال والظروف، إلى أعلى المواقع والدرجات، فتتحقق الإنجازات الكبيرة.

والعمل مهما كان، صغيراً أم كبيراً، ثقيلاً أم خفيفاً، لابد أن يُنجَزَ إذا ما قام به إنسان مؤمن بالله حقّ الإيمان!..

لماذا يحصل ذلك؟!.. وما هو السرُّ الذي يجعل الإنسان المؤمن مالِكاً باستمرار لروحٍ معنويةٍ عاليةٍ، لا يمكن الاستغناء عنها في سعيه لإنجاز الأعمال صغيرةً كانت أم كبيرة؟!..

للإجابة على تلك التساؤلات، لا بد لنا أولاً من تأكيد بعض الأسس والبدهيات الإيمانية:

1-إنّ الإيمان بكل أركانه، هو الأساس المتين الذي يحكم سلوكَ الإنسان المسلم الحقّ وتصرّفه، وهو الذي يُشيَّد عليه بناء الإسلام العظيم. وإنّ المؤمن الذي تَـمَكّن الإيمان من قلبه وعقله ونفسه، يمتلك بذلك البذرةَ الطيبةَ التي ينمو منها صرح ضخم من الأخلاق الإسلامية، التي تضبط كلَّ حركةٍ وكل سكنةٍ في سلوك ذلك الإنسان المؤمن وحياته.

والإيمان حدّده لنا رسولنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم بقوله: (.. أن تؤمنَ بالله، وملائكته، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، واليوم الآخر، وتؤمنَ بالقدر خيره وشرّه).

2- إنّ أيّ عملٍ أو إنجازٍ على مستوى الأفراد والجماعات والأحزاب أو الأمم، لا يؤسَّس إلّا على أساسٍ متينٍ من الإيمان بشكلٍ عام، والإيمان بالعمل نفسه بشكلٍ خاص، وكلّنا يعرف أنّ المرحلة المكيّة في دعوة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم، كانت مرحلة تكوين الإيمان في نفوس مَن دخلوا في هذا الدّين العظيم، وكانت هذه المرحلة التكوينية الإيمانية أخطرَ وأهمَّ مراحل الدعوة الإسلامية، لأنها كانت الأساس الذي بُني عليه صَرْحُ الإسلام العظيم، وفي هذا تقول أمّنا عائشة رضي اللّه عنها: (نزل الإيمان في مكة، ولم ينزل التحليل والتحريم، ولو نزل القرآن بالتحليل والتحريم أول ما نزل، لما أطاع الناس).

3- إن درجة الرقيّ في إنجاز الأعمال والمهمّات، هي ثمرة لدرجة تمكّن الإيمان بأهمية تنفيذ هذه الأعمال، والإنسان المسلم يستمدّ قوّةَ إيمانه بالأعمال الصالحة (له ولأمّته) التي يسعى لإنجازها.. يستمدّها من إيمانه باللّه عزّ وجلّ، وبكل أركان الإيمان التي حدّدها لنا رسولنا محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم.

4- إنّ العملَ الصالح، هو ثمرة من ثمرات الإيمان، ونتيجة من نتائجه. والإيمان الكامل يظهر في أعمال المؤمن وسلوكه وأخلاقه، فالإيمان والعمل مقترنان متلازمان لا ينفكّ أحدهما عن الآخر، يقول الله عزّ وجلّ: (وقُل اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والمؤمنون، وسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغَيْبِ والشهادةِ فَيُنَبِّئُكُم بـِما كُنتُم تَعْمَلُون).. (التوبة 105).

5- الإسلام هو التنفيذ العمليّ للإيمان، فكلّما كان الإيمان متأصّلاً وراسخاً وشاملاً وكاملاً.. ظهر الإسلام عملاً قوياً في حياة الإنسان العملية والأخلاقية والسلوكية، ولا يمكن أن يوجد الإيمان في قلب الإنسان، ثم لا يظهر بمظهر الإسلام في العمل والسلوك، فالإسلام العمليّ هو الدليل على الإيمان الحقيقيّ، وإن ضَعف الإيمان في موضعٍ أو شعبةٍ من شُعَبِه، سيؤدّي إلى ضَعفٍ سُلُوكيٍّ وعمليٍّ في الموضع نفسه، وذلك خلال ممارسة الحياة الإسلامية، التي يبقى بناؤها في ذلك الموضع مُعَرَّضَاً للضعف والانهيار. قال الله عزّ وجلّ: (إنّما المؤمنون الذين إذا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُم، وإذا تُليَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَاناً، وعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).. (الأنفال 2).

6- إنّ ضَعفَ الخُلُق، يدلّ على ضَعْفِ الإيمان، والخُلُقُ القَويّ هو ثمرة للإيمان القويّ، الذي يدفع الإنسانَ باستمرار، لفعل الخير وللعمل الطيّب، وإنّ القِيَمَ الإيمانيةَ هي المحرّك الدائم للإنسان، كي يملك على الدوام، قوةً مَعنويةً تتناسب مع درجة تمكّن هذه القيم منه، التي تدفعه لإنجاز أعماله على أكمل وجه، قال الله عزّ وجلّ: (الذي خَلَقَ الموتَ والحياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أيُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلاً، وهو الْعَزِيزُ الغَفُورُ).. (المـُلك 2).

*     *     *

وهكذا يمكننا أن نخلص إلى نتيجةٍ جوهريةٍ هامةٍ، هي:

إنّ الإيمان بأركانه وقِيَمِهِ، يُشَكِّلُ الأرضيةَ الصلبةَ التي يُبنى عليها بناء الإسلام، الذي أنزله اللّه عزّ وجلّ مَنهجاً وحيداً وشاملاً لكل نواحي الحياة. والنفس الإنسانية المؤمنة هي أهمّ محورٍ عُني به الإيمان، وأهمّ مجالٍ لعمله ونشاطه، إذ تغلغل في أعماقها، وعُجِنَ فيها حتى أصبح جزءاً منها، وراح يتحكّم في سلوكها وأخلاقها، فأصبح الإنسان المؤمن قوّةً لا مثيل لها، يحكمه نظام أخلاقيٌّ قويٌّ عظيم، يُبقيه باستمرار خليفةً في الأرض بكل ما تعنيه هذه المسألة من أبعاد.. هذا الإنسان الذي يـُحركّهُ إيمان راسخ، أنّه صاحب أعظم رسالةٍ عليه أن يؤدّيها على أفضل وجه، بروحٍ معنويةٍ عاليةٍ تسيطر على نفسه في كل الأحوال والظروف، إنّه الإنسان المسلم المؤمن الذي يحقّق الإنجازات العظيمة ويبني حضارة الإسلام الخالدة.

ولهذا، فالإنسان المؤمن باللّه واليوم الآخر، مٌكلَّف من اللّه عزّ وجلّ، بمقتضى إيمانه، أن يتميّز على أهل الأرض جميعاً، بفضائل خُلُقيةٍ راقيةٍ تكفل له دوماً السيادة الكاملة في هذه الأرض، إذ إنّ الناس والأمم، لا يتمايزون إلا بالأخلاق والفضائل الخُلُقية، التي هي بدورها تمثل الدليل على درجة إيمان المرء وصلته باللّه سببحانه وتعالى: (سُئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : أي المؤمنين أكمل إيماناً؟.. قال: أحسنهم خُلُقاً).. (الطبراني).

إذاً: الإيمان والقِيَمُ الإيمانية في الإسلام، تُحدِّد الصفات الخُلُقية للإنسان المسلم كما أرادها اللّه عزّ وجلّ، التي بدورها، تُبقيه باستمرار، مُتَمَتِّعَاً بروحٍ معنويةٍ عالية، وهذه الرّوح المعنوية هي الشرط الذي لابدّ منه لتحقيق الإنجازات، صغيرةً كانت أم كبيرة، والإنجازات عادةً تُقوّي درجة الإيمان عند الإنسان، وتزيده ثقةً بإيمانه. وهكذا، تكتمل دورة: (الإيمان والإنجاز)، كما هو موضّح بالشكل الآتي:

sgsfgsfg1032.jpg

*     *     *

ولنبرهن على ما نقول، سنمرّ (في الحلقة القادمة "3") إن شاء الله، على نماذج من الصفات الخُلُقية الإسلامية، التي لابدّ للإنسان المؤمن أن يتحلّى بها، ولندرس تأثيرها المحورريّ في تحقيق الإنجازات.

*     *     *

-يتبع إن شاء الله.

وسوم: العدد 1032