الصَّبي للصَّبيّ أفهم، وبه أَشْكَل

د. محمد عناد سليمان

د. محمد عناد سليمان

[email protected]

شهدت أساليب التَّدريس وطرائقه تطوُّرًا كبيرًا في معظم المجتمعات، أدَّى إليه تطوُّر علم النَّفس التَّربوي، وما جادت به قرائح الباحثين في مجال التَّربية والتَّعليم، والهدف من ذلك كله النُّهوض بالعمليَّة التَّربويَّة، وزيادة الوعي المهني لدى المدرسين في ميدان العمل التَّربويّ، والارتقاء بالنَّمط التَّقليدي إلى نمط يتوافق والتّطور العلمي الحديث، وما رافقه من تقنيات علميَّة حديثة.

واللُّغة العربيَّة واحدة من أهمِّ المواد العلميّة التي تناولها التَّطور؛ سواء أكان في مناهجها في معظم المراحل، أم في طرائق تدريسها، وتأتي أهميتها من كونها أداة الأفراد التي يتواصلون من خلالها فيما بينهم، ويستخدمونها للتَّعبير عن عواطفهم ومشاعرهم، وأفكارهم ومعتقداتهم؛ بل إنَّها تعد من أهمّ المقومات التي تقوم عليها مجتمعاتنا العربيَّة، وحسبُها شرفًا ومكرمة أنَّها لغة القرآن الكريم.

وما يهمنُّا من هذه الطَّرائق المتطوِّرة والأساليب الجديدة ما يُسمَّى «التعلُّم التَّعاونيّ»، حيث يقسم الطُّلاب فيه إلى مجموعات من «2 – 6» طلاب في كل مجموعة، يناقشون من خلالها فاعليَّة نشاطهم الجماعيّ ضمن المجموعة التي يتشاركون فيها، ودراسة سبل تطوير وتحسين أدائهم ضمن هذه المجموعة على حسب قدراتهم وأدوارهم في التَّعلُّم والتَّحصيل؛ لذلك عرَّفها بعضهم بأنهَّا «استراتيجية صفيَّة تستعمل لزيادة الحوافز والانتباه لدى الطَّلبة؛ لمساعدتهم في معرفة أنفسهم والآخرين، وتزويدهم بالوسيلة اللازمة للتَّفكير، وحلّ المشكلة والمشاركة والاكتساب»([1])، بينما يرى بعضهم أنهَّا «بيئة تعلُّم صفيَّة صغيرة من الطُّلاب المتباينين في قدراتهم، ينفِّذون مهمات تعليميَّة، وينشرون لمساعدة بعضهم بعضًا، ويتَّخذون قرارهم بالإجماع»([2]).

يظهر من خلال ما تقدَّم أنَّ التَّعلُّم التَّعاونيّ يدور في مجمله حول عنصر أساسيّ، وهو تعليم الطَّالب للطَّالب ضمن هذه المجموعة، وما أريد التنبيه عليه هنا أنَّ مثل هذه الطَّريقة من التَّعليم ليست مُستحدثةً كما يرى كثير مِمَّن طرقوا  الحديث عن طرائق التَّعليم المختلفة؛ بل إنَّها متجذِّرةٌ في تراثنا العربي، أشار إليها أحد علمائنا الأجلاء مِمَّن أغنوا تراثنا العربيّ بأفكارهم ومؤلَّفاتهم، وهو عمرو بن بحر الجاحظ المتوفَّى سنة 255هـ؛ فقد خصَّص في إحدى رسائله فصلاً تحدَّث فيه عن تعليم الصَّبي للصَّبيّ قال فيه: «وقد قالوا‏:‏ الصَّبي عن الصَّبي أفهم وبه أشكل‏. وكذلك الغافل والغافل، والأحمق والأحمق، والغبي والغبي، والمرأة والمرأة‏. قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ﴿‏ ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً ﴾‏‏.‏ لأنَّ النَّاس عن النَّاس أفهم وإليهم أسكن‏».

فهذه عبارة جامعة فيها من العلم ما لا يُحصى، ومن فضل الأقدمين ما لا يُنسى، واشتمال على العلمِ الحديث ما لا يُستقصى، فقد جعل الجاحظُ  تعليمَ الصَّبيّ للصبيِّ محور العمليَّة التَّعليميَّة، والطريقة المثلى في إيصال المعلومة إلى ذهن الطَّلبة، معلّلاً ذلك بأنَّ الله تعالى قد أعان الصِّبيان بأن «قرَّب طبائعهم ومقاديرَ عقولهم من مقادير عقول المعلِّمين»‏.‏

وتلك إشارة منه ـ رحمه الله ـ إلى أنَّ تعليم القرين للقرين أفضل، والعبارة بينهم أسهل، وتابع قائلاً: «وسمع الحجَّاج - وهو يسير - كلام امرأة من دار قوم فيه تخليط وهذيان، فقال‏:‏ مجنونة أو ترقِّص صبياً‏!‏. ألا ترى أنَّ أبلغ النَّاس لساناً وأجودهم بياناً وأدقّهم فطنة وأبعدهم روية لو ناطق طفلاً، أو ناغى صبياً؛ لتوخَّى حكاية مقادير عقول الصِّبيان، والشّبه لمخارج كلامهم، وكان لا يجد بدًّا من أن ينصرف عن كلِّ ما فضَّله الله به بالمعرفة الشَّريفة والألفاظ الكريمة‏. وكذلك تكون المشاكلة بين المتَّفقين في الصِّناعات‏».

فيجب أن يراعي المتكلِّمُ عقل السامع في كلامه، ولو كان المتكلِّمُ أشدَّ الناس بلاغة وفصاحة؛ لأنَّ ذلك دليل على حكمته وفطنته، وإذا كان المراد من الكلام إفهام الفهم للسامع؛ فإنَّ ذلك لا يتحقق كما يراه إلا بمحاكاة ومشاكلة عقله واستيعابه، وهذا ينطبق على كل متكلِّم وسامع، بمن فيهم الصِّبيان، وإن صغرت أعمارهم.

وهذه المحاكاة والمشاكلة هي الجوهر الذي تنطوي عليه طريقة التَّعلُّم التَّعاونيّ؛ لأنَّ الطَّلبة يأخذون من بعضهم، وهم أقدر على إفهام بعضهم بعضًا؛ فهم مُنْضَوُن تحت مظلَّة جماعة واحدة، وفي صفٍّ دراسيٍّ واحد، فتكون مقادير عقولهم، ومنطق كلامهم قريب المتناول بين أيديهم، ولا يجدون صعوبة في التَّفاهم، أو التَّواصل فيما بينهم.

وما على المعلِّم حينها إلا الإشراف على هذه المجموعات، والتَّنسيق فيما بينهم لإعطاء كل مجموعة منها دورها الذي يجب أن تؤديه، أما أركانها وأعمدتها فهم الطَّلبة أنفسهم، يتحاورون ويتناقشون؛ بل يتنافسون على قدر عقولهم ومنطقهم؛ ويتحدثون بلغة التَّعليم الصِّبياني أو الطُّلابي؛ إن صحَّ لنا أن نسمِّيَها كذلك، وهذا الذي أشار إليه الجاحظ بقوله: «والشبه لمخارج كلامهم»؛ وما ذاك إلا إشارة واضحة، ودليل عمليٌّ على القدرة التعلُّميَّة التي يمتلكها القرين لتعليم قرينه.

لذلك ومن خلال علمنا في الميدان التَّربويّ نجد في كثير من الأحيان بعض الطُّلاب يتصدّون لإفهام زملائهم بعض ما يقوله المعلم، ليس لأنَّ المعلم لا يمتلك القدرة على إيصال المعلومة، أو إفهام طلابه؛ وإنَّما هو انصياع وخضوع للطَّبيعة البشريَّة التي خصَّها الله لكلّ فئة من فئات الأعمار، والطَّريقة التي يتواصلون من خلالها فيما بينهم، ألا ترى أنَّ أحدنا مهما بلغ من العلم والفصاحة والبيان إذا ما خاطب من هو أصغر منه سنَّا غيَّر منطق كلامه، وابتعد عن التكلُّف والجزالة، وتبدلَّت نبرةُ صوته؛ بل وتغيَّرت تقاسيم وجهه، مراعاة منه للمخاطب، من جهتين: عقله، ومنطقه؛ أي: لغته التي يعوِّل في الفهم عليها، وهذا ما أشار إليه الجاحظ بقوله: «فاختر من المعاني ما لم يكن مستورًا باللفظ المعقَّد، مغرقًا في الإكثار والتكلُّف، فما أكثر من لا يحفل باستهلاك المعنى مع براعة اللَّفظ وغموضه على السَّامع بعد أن يتَّسق له القول، وما زال المعنى محجوبًا لم تكشف عنه العبارة. فالمعنى بعدُ مقيمٌ على استخفائه، وصارت العبارة لغوًا وظرفًا خاليًا». ومن فعل ذلك متعمِّدًا فهو بليغ، لكنَّه شرُّ البلغاء؛ لأنَّه «هيَّأ رسم المعنى قبل أن يهيِّئ المعنى، عشقًا لذلك اللَّفظ، وشغفًا بذلك الاسم، حتَّى صار يجرُّ إليه المعنى جرًّا، ويلزقه به إلزاقًا، حتّى كأنَّ الله تعالى لم يخلق لذلك المعنى اسمًا غيره، ومنعه الإفصاح عنه إلا به».

    وبما أنَّ «لكلِّ معنًى شريف أو وضيع هزلٍ أو جدٍّ ضربًا من اللَّفظ هو حقُّه وحظُّه ونصيبه الذي لا ينبغي أن يجاوزه أو يقصِّر عنه»، وبما أنَّ للطُّلاب لغةً يتواصلون بها فيما بينهم، على قدر عقولهم ومنطقهم؛ كان لا مفر من لجوء المعلم إليها، والاستحواذ عليها، لمدَّ جسر التَّواصل والتَّفاهم، وما التَّعلُّم التَّعاونيّ وانخراط الطُّلاب في مجموعات إلا تسهيل وتيسير لتحصيل ذلك.

               

([1]) السامرائي وآخرون: 1994، ص186.

([2]) لا رسكي: 1995.