الرّوحُ المعنويةُ ودَوْرُ القِيَم الإيمانية في الإنجاز الـمُثمِر 7 + 8

(7)

مثال توضيحيّ رقم (2)

عن أهمية الروح المعنوية في الإنجاز، ودور قِيَمِ الإيمان في ذلك

طافش موظّف يعمل في مؤسسة مصرفية ربوية منذ شهر، وقد عُيّنَ فيها بعد فصله من عمله في وزارة التجارة نتيجة إهماله وتقصيره.

مدير المؤسسة المصرفية رجل صارم سيّئ العلاقات مع موظفيه، يتقن إصدار التعليمات والأوامر بشكلٍ مستمرٍ، التي تُشكّل عبئاً على نفوس الموظفين جميعاً في المؤسسة، وهذا المدير يلتحق بعمله يومياً حوالي الساعة العاشرة صباحاً، علماً أنّ بدء الدوام مُحَدَّد عند الساعة الثامنة والنصف صباحاً، وهو دائماً يُفَاجَأ بموظفيه ما بين سائبٍ وغائب.

وطافش كان قد طلّق زوجته لعدم الانسجام معها، ولكثرة المشاحنات بينهما. ولأنه يحمل شهادةً جامعيةً عاليةً في الآداب، فقد عيّنه مديرُهُ رئيساً لأحد الأقسام، وألحق به سبعةً من الموظفين، الذين بدؤوا بالتسيّب عندما عرفوا أنّ رئيسهم سيكون طافشاً المفصول من وزارة التجارة، وقد اشتكى طافش لمديره مراتٍ عِدة، عن التسيّب وضياع الأوقات التي يسبّبها موظفوا قسمه، لكن شكاواه كانت تُقمَع باستمرار، ويُخصَم من راتبه الشهريّ عشرون دولاراً، بسبب عدم تمكنه من ضبط قِسمه، وقد علم طافش أنّ ثلاثةً من الموظفين عنده، كانوا من أقارب المدير، ما كان يزيد في حالته النفسية السيّئة.. سوءاً.

في نهاية العام، أظهرت الحسابات السنوية الختامية، أنّ المؤسّسة قد خسرت ما يقارب المليون دولار، ما هيّأ الأسباب لإغلاقها من قِبَلِ الحكومة.

وراح طافش والموظفون يندبون حظّهم التعيس وهم يبحثون عن عملٍ جديد في مؤسّساتٍ أخرى..

وقد أظهرت التحقيقات، أنّ المدير مع بعض معاونيه، اختلسوا رُبع مليون دولار، وأّن بقية الخسارة، كانت بسبب فشل المشاريع التي دُعِمَت مالياً من قبل المؤسّسة، دون التحقّق منها أو التعمّق في دراسة الجدوى من إقامتها.

من الجدير بالذكر، أنّ هذه المؤسّسة ،كانت قد أُنذِرَت من قبل الحكومة بالإغلاق، وذلك في العام الفائت، لأنّ خسائرها بلغت آنئذٍ، حوالي نصف مليون دولار!..

*     *     *

باستعراض وقائع المثال من أولّه إلى آخره، نلاحظ أنّ المؤسّسةَ فشلت في إنجاز أيّ عملٍ يُسجّل لها، وقد انتهت الأمور بها إلى الإغلاق والخسارة الفادحة، وكان واضحاً تماماً، مدى الروح المعنوية الهابطة التي تسود في هذه المؤسّسة: مُديراً وموظّفين، ما أودى بها أخيراً، وساقها إلى الفشل الذريع، والأسباب كانت:

- القدوة السيّئة: المتمثلة بطافش الفاشل والمفصول من وزارة التجارة، وبالمدير الرجل السيّئ التعامل مع موظفيه، والـمُقَصِّر الذي يكون آخر الملتحقين بالدوام يومياً، والمختلس اللصّ الذي سرق ربع مليون دولار.

- الكفاءة الرديئة: فطافش رئيس القسم، يحمل شهادةً في الآداب، وهو اختصاص لا صلة له بطبيعة عمله في الجهاز المصرفيّ.

- الخبرة الضحلة: فالتحاق طافش بالمؤسّسة، لم يمضِ عليه أكثر من شهر، ومع ذلك عُيّنَ رئيساً لقسمٍ رئيسيٍّ في المؤسّسة.

- درجة الثقة بالنفس واستمرارها: من أين لإنسان فاشلٍ مفصولٍ أو لمؤسّسةٍ أُنذِرَت سابقاً بالإغلاق نتيجة خسائرها الفادحة.. من أين لم أن ينجحا؟!..

- الاستقرار النفسيّ: من أين يأتي أيضاً، ولكُلٍّ من الموظّفين همومه ومشكلاته، التي يزيدها ويمعمّقها المديرُ الجَلِف المحتال المنحرف، وطافش الذي طلّق زوجته لكثرة المشاحنات، من أين سيأتيه الاستقرار النفسيّ؟!..

- الحوافز: لا وجود لها في حياة طافش الفاشل أصلا،ً والمدير يخصم من راتبه عشرين دولاراً شهرياً، ولا وجود للنجاحات أصلاً في حياة المؤسّسة وموظفيها، فمن أين ستأتي الحوافز؟!..

- التعاون وتوافر الأنصار: وهل كان الفشل العامّ للمؤسّسة، إلا نتيجةً من نتائج الفرقة والتخلّف والمحسوبيّات؟!..

- الإعداد ومستوى الإعداد: فالفشل في إنجاز المشاريع التي دعمتها المؤسسة، كان نتيجةً لسوء الإعداد والتحضير، ولسوء الدراسة الواعية المتأنّية لجدوى تلك المشاريع..

- الإمكانيات: إذ على الرغم من توافر الإمكانيات المالية، فإنّ عدم توافر الإمكانيات الأخرى المختلفة لدى طافش والمدير والموظفين.. قد أفشل المؤسّسة.

- الاقتناع بالعمل وبالهدف، واستيعاب الأهداف ووضوحها: فأيّ اقتناعٍ وأيّ هدفٍ تمثّله تلك المؤسّسة، التي ينخر فيها التسيّب والفوضى، اللّهم إلّا هدف المدير المنحرف، باختلاس الأموال مع بعض معاونيه؟!..

من نافلة القول، التأكيد على أنّ هذه المؤسّسة، بأهدافها وخط سَيْرها، تتعارض كلياً مع القيم الإيمانية ومبادئ الإيمان وأركانه، التي لها الأثر البالغ، في رفع المعنويّات، وتصحيح المسارات، وبالتالي إنجاز الأعمال المثمرة.

*     *     *

الرّوحُ المعنويةُ

ودَوْرُ القِيَم الإيمانية في الإنجاز الـمُثمِر

(8) الأخيرة

أمثلة من السيرة النبوية وحياة الصحابة رضوان الله عليهم

عن أهمية الروح المعنوية في الإنجاز، ودور قِيَمِ الإيمان في ذلك

لعله من المفيد _قبل أن نعرض بعض الأمثلة من السيرة النبوية وحياة الصحابة رضي الله عنهم_ أن نُذكّر ببعض المبادئ والمفاهيم التي أكّدنا عليها في الحلقات السابقة:    

1- إنّ إنجاز الأعمال على مستوى الأفراد والجماعات والأمم، لا يكون بدرجةٍ جيدةٍ، إلّا بتوافر الروح المعنوية العالية، فالإنجاز يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالروح المعنوية للإنسان، فعندما تكون عاليةً يكون الإنجاز عظيماً، أمّا عندما تكون هابطةً فيكون الإنجاز رديئاً، أو لن يكون هناك إنجاز بمعناه الحقيقيّ.

2- وكما أنّ الروح المعنوية تتحكم بمستوى الإنجاز، فإنّ مستوى الإنجاز يُقَوّي أو يُضعِف الروحَ المعنوية، لذلك فهما يُشكّلان دورةً كاملةً، إذ يؤثّر كل منهما بالآخر، ويتأثّر به، فالإنجاز العظيم أو النجاح في الأعمال وتحقيق الأهداف، لا يتحقّق إلا عن طريق إنسانٍ يحمل روحاً معنويةً عاليةً، التي بدورها تتقوّى وترتفع أكثر وأكثر بالإنجاز العظيم نفسه. أمّا الإنجاز الرديء، أو الفشل في تحقيق الأهداف، فهو ثمرة لجهد إنسانٍ مُحطَّم المعنويات، أي يحمل بين جنباته روحاً معنوية ًهابطةً، التي تهبط أكثر وأكثر بالإنجاز الرديء نفسه.

3- إنّ الأمة أو المؤسّسة أو الحزب أو الجماعة، التي لا تملك الخبرات أو الكفاءات أو القدوات.. أو التي تملكها وتُطيحُ بها أو تعزلها أو تجمّدها وتُهمّشها، لاعتباراتٍ طائفيةٍ أو حزبيّةٍ أو طرفيةٍ أو شُلَليةٍ أو عصبيّةٍ جاهليةٍ أو شخصيةٍ.. أو غيرها، على حساب المصلحة العامة، وتختار للمواقع المهمّة: الطائفةَ أو الحزبَ أو الطرفَ أو الشُلّةَ أو الأشخاصَ العاجزين الفاشلين، الذين يفتقرون إلى الخبرة أو الكفاءة أو إلى صفات القدوة المؤهَّلَة.. هذه الأمة أو المؤسّسة أو الحزب أو الجماعة، لن يكون مصيرها إلا الفشل والعجز والخيبات، ثم تنتهي إلى الهزيمة والاندحار والانكسار، وإلى الدّمار الشامل والاضمحلال، هذا في الدنيا.. ومن ثَمّ إلى الحساب العسير في الآخرة، بقدر درجة التفريط، ودرجة اتّباع الأهواء المتقلَّبة، وبدرجة حرص الجُناة الأغبياء (الذين يَسْطُون على مراكز القرار، بالاحتيال والتلاعب والانقلابات العسكرية وغير العسكرية، وبالاستغلال لمواقعهم والعبث غير الأخلاقيّ.. بدرجة حرصهم على المصالح الشخصية الضيّقة، أو على الأهواء الشيطانية المتهافتة، وإغفال متطلّبات النجاح أو أدوات النصر وموجبات تحقيق المصلحة العامة للأمة أو للقضية. هؤلاء لن يحققوا إلا الانهيارات المؤلمة للمؤسّسة أو للأمة، ولجميع مَن فيها، على كل صعيد.

4- إنّ الإيمان بأركانه وقِيَمِهِ، يُشَكِّلُ الأرضيةَ الصلبةَ التي يُبنى عليها بناء الإسلام، الذي أنزله اللّه عزّ وجلّ مَنهجاً وحيداً وشاملاً لكل نواحي الحياة. والنفس الإنسانية المؤمنة هي أهمّ محورٍ عُني به الإيمان، وأهمّ مجالٍ لعمله ونشاطه، إذ تغلغل في أعماقها، وعُجِنَ فيها حتى أصبح جزءاً منها، وراح يتحكّم في سلوكها وأخلاقها، فأصبح الإنسان المؤمن قوّةً لا مثيل لها، يحكمه نظام أخلاقيٌّ قويٌّ عظيم، يُبقيه باستمرار خليفةً في الأرض بكل ما تعنيه هذه المسألة من أبعاد.. هذا الإنسان الذي يـُحركّهُ إيمان راسخ، بأنّه صاحب أعظم رسالةٍ عليه أن يؤدّيها على أفضل وجه، بروحٍ معنويةٍ عاليةٍ تسيطر على نفسه في كل الأحوال والظروف، إنّه الإنسان المسلم المؤمن الذي يحقّق الإنجازات العظيمة ويبني حضارة الإسلام الخالدة. ولهذا، فالإنسان المؤمن باللّه واليوم الآخر، مٌكلَّف من اللّه عزّ وجلّ، بمقتضى إيمانه، أن يتميّز على أهل الأرض جميعاً، بفضائل خُلُقيةٍ راقيةٍ تكفل له دوماً السيادة الكاملة في هذه الأرض، إذ إنّ الناس والأمم، لا يتمايزون إلا بالأخلاق والفضائل الخُلُقية، التي هي بدورها تمثل الدليل على درجة إيمان المرء وصلته باللّه سبحانه وتعالى: (سُئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : أي المؤمنين أكمل إيماناً؟.. قال: أحسنهم خُلُقاً).. (الطبراني).

5- بناءً على ما سبق، فإنّ الإيمان والقِيَمُ الإيمانية في الإسلام، تُحدِّد الصفات الخُلُقية للإنسان المسلم كما أرادها اللّه عزّ وجلّ، التي بدورها، تُبقيه باستمرار، مُتَمَتِّعَاً بروحٍ معنويةٍ عالية، وهذه الرّوح المعنوية هي الشرط الذي لابدّ منه لتحقيق الإنجازات، صغيرةً كانت أم كبيرة، والإنجازات عادةً تُقوّي درجة الإيمان عند الإنسان، وتزيده ثقةً بإيمانه. وهكذا، تكتمل دورة: (الإيمان والإنجاز)، وإذا لم يتمكّن الإنسان المسلم أن يكونَ بهذه الدرجة الراقية في إنجاز أعماله، فانظر إلى ثنايا نفسه، لتكتشف أنّ درجةً من الضعف تعتري مستوى إيمانه، بمقدار درجة الضعف نفسها في إنجاز أعماله.

6- فالأمّة أو الحركة الإسلامية التي تريد أن تمتلك أسبابَ القوّة، لا بدّ لها أن تكتشفَ وتـُحدِّدَ الخللَ في (درجة الإيمان) لدى أفرادها أولاً، وما يتعلّق بها من أخلاق القدوات وتوفير الكفاءات والخبرات، ثم تضع الحلول الناجعة لتصحيح مستوى الإيمان لديهم أولاً، بالتربية الهادفة والتدريب المرتبط بحقائق الميدان وصفحات الصراع مع الباطل. والنتيجة الحتميّة لذلك، ستكون إنجازاتٍ وانتصارات. ومن دون ذلك، ستبقى الأمور رَهناً لهذا الضعف الإيمانيّ في النفوس، ولضعف الكفاءات والخبرات والأخلاق، الذي لن يثمر إلا الفشل العامّ، والهزائم المتلاحقة، والانحسار المستمرّ، والتراجع الخطير. (.. ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).. (الأنفال/53).

*     *     *

السيرة النبوية زاخرة بالأمثلة العملية لأهمية الروح المعنوية، والإيمان باللّه سبحانه وتعالى وباليوم الآخر.. في تحقيق الإنجازات، وسنمرّ سريعاً على بعض الأمثلة التي تُبيّن أهمية ارتباط الروح المعنوية بالإيمان ممّا يؤدّي إلى إنجاز الأعمال وتحقيق الانتصارات في المواقف والمعاراك والصراعات:

 

أ- (واللّهِ لو وضعوا الشمسَ في يميني، والقمرَ في يساري، على أن أتركَ هذا الأمر، ما تركته، حتى يُظهرَهُ اللّه أو أهلَكَ دونه)..

إنه كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لعمّه أبي طالب، الذي يساومه على ترك الدعوة إلى اللّه بتحريضٍ من قريش. إنّها الروح المعنوية العالية جداً، يصنعها إيمان في أرقى درجاته، فأثمر إنجازاً وثباتاً عظيماً.

ب- (أحَدٌ..أحَد).. هكذا كان يجيب بلال الحبشيّ جلّاديه، الذين ما تركوا وسيلةً معه لإخضاعه، وهو العبد الضعيف.. إلّا استخدموها، لكنه كان يصفعهم بثباته وصبره، مُعلناً توحيده للّه عزّ وجلّ، وإيمانه به وبرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، فهل هناك أعلى من هذه الروح المعنوية التي أُسِّسَت على إيمان صلبٍ مَتين؟!..

ونَجَمَ عن ذلك إنجاز عظيم، أو ثبات راسخ لم يستطع جلاوزة الكفر أن يزعزعوه!..

ج- (صَبراً آل ياسر، فإنّ مَوْعِدَكُم الجنّة).. هكذا كان القائد العظيم محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم يبثُّ في نفوس أتباعه الروح المعنوية العالية، ويُذكّرهم بإيمانهم، وبجنّة اللّه التي تنتظر الصابرين الثابتين على الحق، لإنجاز أعظم عملٍ كُلِّفوا به من قِبَلِ اللّه عزّ وجلّ، وهو تشييد بناء الإسلام العظيم.

د- (يا أبا بكرٍ ما ظنُّكَ باثنينِ اللّهُ ثالثهما؟..)..

نعم، فقد يتغلغل الوَجَل إلى أقرب المقرّبين، وأصدق الصادقين، وذلك خلال فترات الشِّدّة، لكنّ القائد العظيم، أبداً لا يتأثّر بالمحن والنوازل مهما اشتدّت، فهو دوماً يمتلك الروح المعنوية العالية، ويبثّها في أعماق النفوس المؤمنة من حوله، فيعود كلّ أمرٍ إلى نصابه.. إنها روح معنوية في أعلى الدرجات، وإيمان عميق، ثم إنجاز لا يُضاهى!..

هـ- بعد هزيمة المسلمين في أُحُد، وفي اليوم الثاني لعودة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المدينة، خَفَّ لمطاردة أبي سفيان وجيشه الكافر، حتى بلغ (حمراء الأسد) التي تبعد حوالي ثمانية أميال عن المدينة، ولم يجرؤ المشركون المنتصررون في موقعة أُحُد، على العودة لمقاتلته مع أصحابه.

إذ على الرغم من أنّ جيش المسلمين قد أثخنته الجراح، فقد استنهضهم قائدهم الفذّ صلى الله عليه وسلّم، ليحوِّل الهزيمةَ إلى نصر، وليَبذر بذلك بذور الروح المعنوية العالية والثقة بالنفس، لأجل المنازلات القادمة مع جيش الكفر، لتحقيق الإنجازات والانتصارات المنتظَرة.

و- قُبيل معركة القادسية، أمر رُستَمُ قائد جيش الفرس، بخطف رجلٍ من المسلمين، فقام بعضُ جنده بذلك، فاختطفوا رجلاً وأُدخلَ على رستم فقال له: ما جاء بكم؟ وماذا تطلبون؟ قال: جئنا نطلب موعودَ اللّه، قال: وماهو؟.. قال: أرضكم وأبناؤكم ودماؤكم إن أبيتم أن تُسلموا.. فقال رستم: فإن قُتلتم قبل ذلك؟.. قال: في موعود اللّه، أنّ من قُتِل منّا قبل ذلك أدخله الله الجنّة، وأنجز لمن بقيَ منّا ما قلتُ لكَ، فنحن على يقين!.. فقال رستم: قد وُضعنا إذاً في أيديكم؟!.. قال: ويحك يا رستم! إنّ أعمالكم قد وَضَعَتكم، فأسلمكم اللّه بها إلينا، فلا يَغُرّنّك ما ترى حولك، فإنّك لستَ تحاول الإنس، وإنّما تحاول القضاء والقدر!!.. (أيام العرب في الإسلام ص256-257).

يا للروعة هذه الروح المعنوية التي صنعها الإيمان القويّ العميق في النفوس، والموقف هنا ليس بحاجةٍ إلى تعليق، وإنّما نلفت إلى أنّ قائل هذا الكلام كان رجلاً من عامّة المسلمين، ومُختَطَف، وأنّ ثمن كلامه وهو بين يدي قائد جيش العدوّ.. هو الموت، وهذا ما حصل بالفعل، فأجوبته الفذّة جعلت رستم الكافر يستشيط غضباً فيأمر بضرب عنقه. ذاك الرجل المسلم الذي تمكّن الإيمان من نفسه، أيّما تمكّن فولّدَ هذه الروح المعنوية العالية، التي استشرّت بين المسلمين جميعاً، فحققت الإنجاز الكبير: الانتصار العظيم على أقوى دولةٍ في الأرض آن ذاك -الفُرس-.

والأمثلة أكثر من أن تُحصى، وكلها تدلّ على أنّ الإيمان عندما استحكم من نفوس المسلمين، كانت روحهم المعنوية لا مثيل لها، وبذلك حققّوا الإنجازات العظيمة التي تناقلتها الأجيال من بعدهم.. وكُلّنا يعرف حديث المغيرة بن شعبة، وربعي بن عامر، وغيرهما، مع رستم، قبيل معركة القادسية، التي كانت من أعظم الإنجازت التي حققها المسلمون آن ذاك.. لكن كان هناك موقف عابر، يدلّ على عِظَم الروح المعنوية وعمق الإيمان الذي تمتّع به أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:

ز- جاء في كتاب (أيام العرب في الإسلام) ص267: ولم يكد المغيرة يقطع القنطرة (أي التي كان فيها يواجه رستم)، ويصل إلى أصحابه، حتى جاء خلفه رجل من أهل فارس يقول له: "إنّ رستم رجل مُنجّم، وإنّه إذ رآك حسب لك ونظر في أمرك، فقال: إنّك غداً تُفقَأ عينك!.." فأجابه المغيرة: "بشّرتني بخيرٍ وأجرٍ، ولولا أن أجاهد بعد اليوم أشباهكم من المشركين، لتمنّيتُ أنّ الأخرى (أي العين الثانية) ذهبت أيضاً!..".

فهل هناك أروع من هذه الروح المعنوية التي كان يتمتّع بها أولئك الأفذاذ، الذين صنعوا التاريخ، وسطّروا الصفحات الخالدات؟!..

وهذا هو رستم نفسه، يتوجّه إلى جنوده الفاجرين المخمورين، الذين سئم من أعمالهم المنكَرة كبار الأعاجم، فشكوهم إلى رستم، الذي قال لهم: لقد كنتم تنتصرون على العدوّ بِحُسْنِ السيرة وكفّ الظلم، والوفاء بالعهود، والإحسان، فأما أنّكم تحوّلتم عن ذلك إلى هذه الأعمال (المنكَرة)، فما أنا بآمنٍ أن يُنزَعَ سلطانكم منكم!.. (أيام العرب ص257).

فرستم القائد، اعتبر خروجَ جنوده عن الصراط المستقيم، سبباً لهبوط الروح المعنوية عند الناس، الذين يشتكون منهم ومن منكراتهم، وحذّرهم من أنّ ذلك سيكون سبباً لزوال سلطانهم ودولتهم!..

"والحمد للّه ربّ العالمين"

*     *     *

-تمّت-

وسوم: العدد 1035