السر وراء الحملة المستهدفة لأئمة الحديث وصحاحهم ومن اشتغل بها من أهل العلم والاختصاص قديما وحديثا

يتساءل كثير من الناس عن السر وراء تعاطي بعضهم لانتقاد أئمة الحديث من أصحاب الصحاح ، وانتقاد المشتغلين بها من أهل العلم والاختصاص، في هذا الظرف بالذات ، علما بأن ما  أقدم عليه هؤلاء، ليس بالأمر الجديد حين نراجع كتب التاريخ ، والجامع بين القدامى منهم ،والمحدثين، والمعاصرين ،هو ما يكنونه للإسلام من عداء بعضهم يجاهر به ، والبعض الآخر يموه عنه، زاعما أنه لا يقبل من يزايد عليه في الانتماء إليه ، وهو أسلوب سجله القرآن الكريم خلال وصفه لأهل النفاق زمن نزول الوحي ، وذلك في قوله تعالى : (( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا أمنا ، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون )) ، وإذا ما أضيف هذا الوصف الدال على النفاق في هذه الآية الكريمة إلى باقي الأوصاف الدالة عليه في غيرها ،اكتملت صورة النفاق الذي حذر منه الله عز وجل عباده المؤمنين ،لأن خطر النفاق عليهم، أشد من خطر الكفر، لأن الكافرين يصرحون بعدائهم لدين الله عز وجل، بينما المنافقون يضمرونه ،ويموهون عليه بادعاء الإيمان الكاذب المغشوش .

ومعلوم أنه لم ولن يخلو عصر من العصور إلى قيام الساعة من المنافقين، الذين كل همهم، وكل شغلهم، هو الخوض في كتاب الله عز وجل ، وفي حديث رسوله صلى الله عليه وسلم خوض تشكيك ، واتهام ، وسخرية ،واستهزاء، رغبة في توسيع قاعدة نفاقهم بين الأغرار، وبين وضعاف الإيمان، الذين أسلموا، ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم .

وإذا كان النفاق واحدا في الماضي، والحاضر، والمستقبل إلى أن يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها  من حيث استهدافه للإسلام باعتباره منهاج حياة يقلق غيره من المناهج الوضعية ، فإن ظروفه تختلف من عصر إلى آخر . ونفاق هذا العصر ،لا يمكن أن يفهم خارج سياق ما يحكم العالم اليوم من أحداث عرفها في نهاية العقد الأول من القرن الحالي في الساحة العربية تحديدا ،والتي تدين غالبية أهلها بدين الإسلام، الذي تفرغ الغرب العلماني لعدائه بعد تصفية الحساب داخل معسكره خلال حربين عالميتين  أفرزت آخرتهما قطبين ،انهار أحدهما أمام الآخر بعد حرب باردة ،  وهو اليوم يريد أن  يستعيد قطبيته من خلال الحرب الدائرة في عقر دار أوربا . وما حدث بعد العشرية الأولى من هذا القرن في الساحة العربية المسلمة ،هو اندلاع ثورات سميت بثورات ربيع عربي ،عبرت خلاله الشعوب العربية المسلمة عن رهانها على الإسلام كمنهاج حياة، بعدما تأكدت أن نموذج الحياة العلمانية التي يريد الغرب عولمتها، لا تساير قناعتها العقدية، لأنها تمس بجوهر اعتقادها الشيء ،الذي ينعكس سلباعلى حياتها، وعلى قيمها

ولم يكن الإجهاز على ثورات الربيع العربي محض صدفة ،بل كان أمرا مدبرا بليل كما يقال، منعا لاستكمال صحوة إسلامية ،كانت قد بدأت منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي ، وأوشكت أن تؤتي أكلها ،الشيء الذي يقطع الطريق على محاولة عولمة النموذج العلماني في الأقطارالعربية التي تدين غالبية شعوبها بدين الإسلام على ما في تدين الكثيرمنها من رقة ، ومن بعد عن الاقتداء الأمثل بسلفها الصالح والذي لا يصلح أمرها إلا بما صلح به  أمره  من قبل .

ولقد تمثل الإجهاز على الإسلام  عقب ثورات الربيع العربي في عملية شيطنة الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية ،على ما في تمسكها بهذه المرجعية من اعتدال يوشك أن  ينحرف بها عن الجادة من أجل أن تحظى بالقبول عند العلمانية الغربية التي لن ترضى عنها أبدا مهما بلغ شأوها من الاعتدال ، ورغم ما أظهرته وما تظهه من استعداد للتعايش معها ، بل والتسليم لها بحصة الأسد من تدبير أمور حياتية كثيرة، الشيء الذي يجعل أفراد المجتمعات العربية تعيش تناقضا صارخا بين ما تعتقده، وما تحيى عليه مما تمليه عليها العلمانية إملاء . ولم ترض العلمانية عن كل ما أبدته  تلك الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية من مرونة، والتي قبلت و أقبلت على اللعبة الديمقراطية، منافسة أحزابا تختلف معها في المرجعية والموزعة بدروها بين يمينية، ويسارية، ولكن  يجمع بينها ويوحدها رفض وجود أحزاب ذات مرجعية إسلامية منافسة لها على الوصول إلى مراكز صنع القرار . ولقد صارت الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية  لا تختلف عند العلمانية الغربية عن الجماعات الإرهابية التي تتبنى العنف باسم الإسلام افتراء عليه ،وهي المصنوعة مخابراتيا  بشكل مكشوف، لتكون ذريعة لشيطنة تلك الأحزاب، ومن ثم استئصالها، كي لا تتمكن من إثبات قدرتها على منافسة العلمانية في تأطير الحياة العامة في الأقطار العربية، بشكل يقارب على الأقل النموذج التركي الذي بات مصدر قلق للعلمانية الغربية التي لم تدخر جهدا في الانتخابات الأخيرة من أجل إفشال حزب العدالة والتنمية  التركي ، بعدما فشل الانقلاب العسكري عليه سنة 2016وكان ينتظر منه أن يكون ناجحا كالانقلاب العسكري في مصر  سنة 2013على حزب العدالة والحرية ذي المرجعية الإسلامية .

ولقد حرصت العلمانية الغربية على ألا يتكرر النموذج التركي في الساحة العربية ، وأوكلت إلى جهات إقليمية مهمة التصدي لظهور أي شكل من أشكال الميول الإسلامية في الوطن العربي  مهما كانت ،الشيء الذي نشأت عنه الحملة المستهدفة لكل ما له صلة بالإسلام ، وعلى رأس ذلك استهداف أئمة الحديث ، وصحاحهم، ومن اشتغل أو يشتغل بها من أهل العلم ،والاختصاص، تمهيد لخلق جيل جديد هجين في الوطن العربي يسهل إقناعه بالشكوك في تراثه الإسلامي ،ليكون لقمة سائغة يبتلعه غول العولمة العلمانية .

 ومعلوم أن النيل من كتاب الله عز وجل، ليس بالأمر الهين ،نظرا لطبيعته كوحي غير قابل للتشكيك ، وليس أمام من يعرض عليه  هذا الوحي سوى أحد أمرين: الإيمان جزما به أو رفضه قطعا ، ولا وجود لموقف وسط بين هذين الخيارين كما يريد بعضهم، تمهيدا للنيل من دين الله عز وجل، بدءا بالتشكيك في الحديث كمرحلة أولى، تليها مرحلة التطبيع مع التشكيك في القرآن الكريم ، وإن كانت بوادر هذا التشكيك موجودة من خلال الدعوات التي ترفع من أجل تعطيل الحدود ، وتغيير أنصبة المواريث...  على سبيل الذكر لا الحصر . والتشكيك في الحديث، يتم عبر طرق ملتوية، حيث يبدأ من التشكيك في مصداقية من يشتغلون بعلومه من أهل العلم والاختصاص، وذلك من أجل الوصول إلى التشكيك في مصداقية أئمته، ومن ثم الوصول إلى التشكيك  في مصداقيته،  ثم الانتهاء إلى التجاسر على مصداقية كتاب الله عز وجل ، وذلك بجعله مجرد كتاب ككل الكتب، ويكون بذلك قابلا للنقد، يأخذ منه ويرد .

وعندما يصل الأمر إلى هذه المرحلة من التجاسر على كتاب الله عز وجل، يصير كل ما شرعه قابلا لاستبداله بشرائع وضعية بديلة عنه، خاصة العلمانية منها بعد تجريمه، باعتباره مناقضا لقيمها التي تنعت بالإنسانية، والمعترف بها دوليا ،أو بالأحرى المفوضة فرضا ، وهكذا صرنا نسمع بما يسمى نبذ ومحاربة خطاب الكراهية ، والذي يقصد به تلك الأوصاف التي ورد ذكرها في كتاب الله عز وجل ، والتي خص بها أصنافا من البشر ، وهي صفات ملازمة لهم إلى قيام الساعة، لا تنفك عنهم . ومعلوم أن وراء دعوى نبذ  ومحاربة ما يسمى بخطاب الكراهية أهدافا معلومة ،لم تعد خافية على الرأي العام العربي والإسلامي، وهي تكريس لوضع يراد من ورائه التمكين للجلاد على حساب الضحية في قلب الوطن العربي النابض. وعلى غرار نبذ ومحاربة ما يسمى بخطاب الكراهية، تأني أنواع أخرى من الخطابات التي يتضمنها المصحف الشريف، من قبيل تلك التي تدين وتجرم الفواحش، والانحرفات الأخلاقية، وقد صار لهذه الأخيرة أنصار، ومدافعون عنها، ويجرم تجريما  كل من يدين سلوكاتها .

ومعلوم أنه كما يقول المثل، إذا عرف السبب بطل العجب ، فلهذا الحملة المستهدفة للإسلام من خلال استهداف تدريجي، من النيل من أهل العلم والاختصاص المشتغلين بالحديث،  إلى النيل من أئمته ، ومن صحاحه ، إلى التجاسر على القرآن الكريم من خلال المطالبة بتعطيل كثير من نصوصه من أجل تعطيل شرع الله عز وجل في نهاية المطاف .

ومع ما أبداه أصحاب الحملة المستهدفة لهذا الشرع من جهل فظيع به ، فإن وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي الممول من طرف جهات لم تعد خافية في الوطن العربي ، تفسح لهم المجال واسعا ،رغبة في توسيع قاعدة المنبهين بحذلقتهم المثيرة للسخرية أحيانا حتى أن أحد هؤلاء، لحن في نسبة الإمام الدارقطني إلى محلة "دار القطن" في بغداد ، ونطقها عدة مرات في فيديو له هكذا "الدرقطني " ـ بفتح الدال والراء ، وتسكين القاف ـ ومع ذلك ،فهو يتبجح بادعاء العلم والمعرفة ، ويسخر من أهل العلم والاختصاص، وشأنه في سوء سوء نطق اسم الدراقطني ، شأن المطربة الشعبية التي حشرت أنفها هي الأخرى فيما لا يعنيها، ولا ينبغي لها حيث سجل لها أحد الفيديوهات المتداولة على نطاق واسع  نطقها اسم الإمام ابن تيمية هكذا " ابن تميمية " وأصرت على ذلك، بعدما حاول بعضهم تصويب نقطها ، وأي فرق بقي  بين من لحنت في نطق اسم ابن تيمية ، وربما هي أمية ، وبين من لحن في نطق اسم الدارقطني وهو يعتبر نفسه مثقافا وصاحب معرفة وعلم ، وقد أغراه ذلك بطلب مناظرة أهل العلم والاختصاص في الشأن الديني ، ومعلوم أنه في الجهل يشترك الجهال  ؟

والمؤسف أن كثيرا من أشباه المثقفين من الشباب، استهوتهم حملة أصحاب استهداف الإسلام حديثا، وقرآنا ، لمجرد مخالفتهما أهوائهم ، وما يريدونه من تهتك ،وانحلال أخلاقي، واستهتار بالقيم الأخلاقية، وهم بعيدون كل البعد عن إدراك ما وراء الأجمة مما يخفيه المستأجرون نيابة عمن يستأجرهم للنيل من دين الله عز وجل، الذي قضى سبحانه وتعالى أن يظهر على الدين كله، ولو كره أعداؤه من كفار ومن منافقين . 

وسوم: العدد 1035