تركيا تدخل السوق الدفاعية الخليجية وتفرض واقعاً جديداً

على مدى العقد الماضي، استطاعت تركيا تعزيز دورها ليكون فاعلاً إقليمياً قوياً ومؤثراً في السياقات الأمنية لبعض صراعات المنطقة، مثل سورية والعراق وليبيا، ولعبت دوراً مميزاً رغم محاولات البعض في التقليل من أهميتها في لعب مثل هذه الأدوار التي كانت حكراً على الدول الكبرى والمؤثرة.

فسعت هذه الدول على العمل بكل الوسائل الممكنة على هزيمة أردوغان في الانتخابات لفتح صفحة جديدة مع أنقرة بناءً على أولويات ومصالح هذه الدول، خاصّة أن المعارضة التركية كانت قد أرسلت مؤشرات واضحة على استعداداها للاستجابة لأولويات هذه الدول دون مقابل، وربما كان هذا الانطباع قد أثر أيضا على بعض الدول في المنطقة العربية وإن لم تبد هذه الدول مؤشرات علنية على هذا الأمر.

لكن فوز أردوغان فرض واقعاً جديداً، وسمح التجديد له بإعطاء زخم لسياسة التقارب والمصالحات الإقليمية وتعزيز العلاقات التركية - الخليجية على وجه الخصوص. وتركّز المرحلة الجديدة في العلاقات بين الطرفين على الاقتصاد بالدرجة الأولى، والبعض ينظر إلى هذا الأمر بشكل حصري من زاوية حاجة تركيا إلى الاستثمارات الخليجية، لكن الحقيقة أعمق من هذا الانطباع السطحي.

لن تعود الشراكة التركية الخليجية الجديدة بالفوائد الاقتصادية والعسكرية والأمنية على الطرفين فحسب، بل تجعلهما فاعلين مؤثرين في القضايا الإقليمية أيضاً، ستكون الخطوة التالية في الشراكة الجديدة بين أنقرة والخليج تطويرها إلى مواءمة السياسات تجاه هذه القضايا، والتي ستعمل على إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية الإقليمية.

فدولة مثل الإمارات على سبيل المثال، تبحث عن فرص استثمارية وهذا يعني أنّ شراء أصول مهمّة بسعر رخيص (في الحالة التركية) هو استثمار طويل الأمد من شأنه أن يدر الكثير من الأرباح فور صعود الاقتصاد التركي، ولأنّ المشكلة التركية ليست عضوية وإنما ترتبط بشكل أساسي بالسياسة النقدية وليس بالاقتصاد بحد ذاته، فهذا يعني أنّ التغيير سيأتي عاجلاً أم آجلاً وسيجر معه الأرباح المنتظرة.

وبالنسبة إلى دولة مثل السعودية، فقد أعلن ولي العهد محمد بن سلمان أكثر من مرّة عن مشاريع مستقبلية تنطوي على قطاعات متعددة من بينها الإعمار والتكنولوجيا والطاقة.. الخ.

وهذه قطاعات من الممكن لتركيا أن تلعب دوراً أساسياً فيها، فالشركات التركية في قطاع المقاولات والإنشاءات تأتي في المرتبة الثانية عالمياً بعد الصين؛ فضلاً عن ذلك، فان حجم التبادل التجاري بين السعودية وتركيا متواضع جداً بالنسبة إلى حجم أكبر اقتصادين في المنطقة ويساوي حوالي 6.5 مليار دولار فقط، وهذا يعني أنّ هناك مساحة كبيرة لزيادة التعاون الاقتصادي بما يفيد الطرفين.

الاتفاقات الـ 16 التي تمّ توقيعها على هامش منتدى الأعمال التركي السعودي، في مقر مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركي DEIK"، بمشاركة وزراء سعوديين وأتراك مؤشر على وجود هذه المساحة، التعاون المنشود بين الطرفين يتجاوز التبادل التجاري إلى التعاون المرتقب في العديد من القطاعات كالمقاولات، وإنشاء المدن الذكية، والسياحة، والتحول الرقمي والقطاع الغذائي، بحسب تأكيدات الطرفين.

لا شك أنّ تعزيز العلاقات الاقتصادية والاستثمارية بين تركيا وهذه الأطراف الخليجية يعزز من المصالح الثنائية المشتركة كما أنّه يوثّق من العلاقات السياسية والدفاعية. أمّا قطر، فهي حليف تركيا الأوّل في الخليج، وعلى الرغم من أنّ سوقها محدود نسبياً مقارنة بالآخرين، إلاّ أنّ علاقاتها التجارية مع الدول الغربية أعلى بكثير من تركيا، ولذلك فهناك دوماً مساحة لزيادة التعاون الاقتصادي والاستثماري، وهناك بالتأكيد رغبة ثنائية في الحفاظ على التحالف القائم بين الطرفين وتمتينه تحسّباً لأي متغيّرات مستقبلية تتعارض مع سياسة خفض التصعيد والتطبيع الجارية في المنطقة.

ولا شك أنّ تعزيز العلاقات الاقتصادية والاستثمارية بين تركيا وهذه الأطراف الخليجية يعزز من المصالح الثنائية المشتركة، كما أنّه يوثّق العلاقات السياسية والدفاعية. فدول الخليج، لاسيما الدول التي تمّت الإشارة إليها، تركّز مؤخراً على تنويع وارداتها الدفاعية وعلى بناء صناعة دفاعية محلّية، والجانب التركي لديه ليونة كبيرة في موضوع التعاون الدفاعي والأمني، كما أنّه منفتح على مشاريع مكمّلة أو مشتركة في مجال الصناعات الدفاعية ولا يفرض كثير قيود على هذا التعاون كما على نقل التكنولوجيا، كما يفعل الغرب مع هذه الدول.

ويعد قطاع الصناعات الدفاعية واحداً من القطاعات الواعدة في مجال التعاون المشترك بين تركيا وهذه الأطراف، وهو من ناحية الأهمّية لا يقل عن العنصر الاقتصادي وإن كانت الأطراف متّفقة الآن على أولوية العنصر الاقتصادي والاستثماري في هذه المرحلة؛ علاوةً على ذلك، فإن هناك مجالات أخرى للتعاون لا تزال تحتاج إلى اهتمام من الطرفين لا سيما قطاعات مثل الصحة والسياحة والتعليم والثقافة.

الثقة المتبادلة بين أنقرة والرياض دفعت الشركة السعودية للصناعات العسكرية للتوقيع على اتفاقية استراتيجية مع شركة بايكار تكنولوجيز التركية لتوطين صناعة الطائرات المسيّرة في المملكة، وهذه الاتفاقية إلى جانب الاتفاقيات الأخرى التي أبرمتها أنقرة والرياض على هامش الجولة الخليجية أخيراً للرئيس رجب طيب أردوغان الزخم القوي للعلاقات الجديدة التي تعمل تركيا على إقامتها مع السعودية ودول الخليج عموماً، ومع أنّ الأبعاد الاقتصادية تأخذ الحيّز الأكبر من الاهتمام في التفاعل القوي بين تركيا والخليج، منذ أعادت أنقرة وكلّ من الرياض وأبوظبي إصلاح علاقاتهم، فإنّ الاهتمام الخليجي المتزايد بصناعات الدفاع التركية يتجاوز في الواقع المكاسب التجارية البحتة في عمليات مبيعات الأسلحة التركية إلى دول الخليج، إنه يعكس بشكل خاص كيف أنّ تركيا في طريقها إلى أن تُصبح شريكاً حيوياً لمنطقة الخليج في مجالات الأمن والدفاع.

لقد تمكّنت صناعة الدفاع التركية، في السنوات الأخيرة، من جذب اهتمام العالم بشكل متزايد، لا سيما في صناعة الطائرات المسيّرة التي أثبتت كفاءتها في تغيير موازين صراعات عديدة في الأعوام القليلة الماضية، مثل حرب قره باخ الثانية بين أذربيجان وأرمينيا، والصراع في ليبيا ودورها المؤثر في العمليات العسكرية التركية لمكافحة الإرهاب في شمال سورية والعراق، لذلك لا يبدو الاهتمام الخليجي باقتناء الطائرات المسيّرة التركية والدخول في شراكات مع تركيا لتوطين صناعة هذه الطائرات، مستغرباً من منظور عسكري، لكنّه لم يكن في الوسع تصوّر هذا التنامي في مجالات التعاون الدفاعي بين تركيا وكلّ من السعودية والإمارات، لولا التحوّل الكبير الذي طرأ على علاقات هذه الدول منذ عامين، يُشير ازدهار التعاون الدفاعي بين تركيا ودول الخليج عموماَ إلى جانب الصفقات الثنائية الكبيرة في مجالات الاقتصاد والتجارة والاستثمار، إلى أنّ العلاقات الجديدة بين تركيا والخليج تتطوّر إلى شراكات استراتيجية شاملة.

عامل آخر يُفسر الاهتمام الخليجي بصناعات الدفاع التركية، لطالما كانت دول الخليج تعتمد طوال عقود على الولايات المتحدة راعياً لأمن منطقة الخليج، لكنّ حالة عدم اليقين بشأن مستقبل المظلة الأمنية الأمريكية للخليج، مع ميل واشنطن إلى تخفيف ارتباطها الأمني بالمنطقة وتركيز مواردها العسكرية على مواجهة التحدّيات الجديدة المتمثلة في الصين وروسيا، تدفع دول الخليج إلى العمل على تنويع شراكاتها الخارجية وسيلة تحوّط استراتيجي وللحدّ من تأثير التراجع الأميركي على أمن الخليج، لذلك برزت تركيا كأحد الشركاء الجدد لدول الخليج في مجالات الأمن والدفاع، ومن غير المتصورّ أن تُنهي دول الخليج اعتمادها بشكل كبير على الولايات المتحدة في مجالات الأمن والدفاع، لكنّ مثل هذه الشراكات الجديدة توفّر لها خيارات أخرى، وتجعلها أكثر قدرة على إعادة تشكيل علاقاتها مع واشنطن والقوى الإقليمية والدولية بشكل متوازن.

بالنسبة لتركيا، تبدو الشراكة القوية التي أقامتها مع قطر منذ سنوات نموذجاً فعالاً لتطبيقها على دول الخليج الأخرى، مثل السعودية والإمارات والكويت والبحرين وجزئياً سلطنة عُمان، ومن المتوقع أن يُجري أردوغان جولة أخرى في الخليج، تشمل الكويت والبحرين وسلطنة عُمان.

ومن الفوائد المتصوّرة للتعاون الخليجي مع تركيا في مجالات الأمن والدفاع أنها ستُعزّز قدرة دول الخليج على مواجهة التحدّيات الأمنية التي تواجهها، خصوصاً تلك المرتبطة بحرب اليمن وأمن الملاحة البحرية.

أما الفوائد المتصوّرة لتركيا من هذه الشراكة فهي تتجاوز الحسابات التجارية في مبيعات الأسلحة التركية إلى منطقة الخليج، وتُساعدها في تقديم نفسها لاعباً جديداً قادراً على المساهمة في تحقيق أمن الخليج واستقراره، وما يعنيه ذلك من أبعاد جيوسياسية مهمة في العلاقات التركية الخليجية، وإذا ما توفّرت الإرادة السياسية لدى تركيا والخليج لتطوير هذا التعاون بشكل متسارع إلى شراكات شاملة مُتعددة الأوجه من التكامل الاقتصادي إلى التعاون الأمني والدفاع ومواءمة السياسات الإقليمية، فهذا سيجعل تركيا والخليج فاعليْن قويين في النظام الإقليمي الجديد الذي يتشكّل منذ ثلاث سنوات.

وذكر خبراء، في المجال الدفاعي، أن الاتفاقيات التي وقعتها شركة بايكار التركية مع الرياض ستوجد علاقة طويلة الأمد بين قطاعي الصناعات الدفاعية لتركيا والسعودية.

ولفتوا إلى أن هذا الوضع سيزيد من تعاون تركيا مع دول الخليج الأخرى في مجال الصناعات الدفاعية.

وأكد الخبراء أن تضافر الجهود بين بايكار وقطاع الصناعات الدفاعية في السعودية سيسهم في زيادة الطاقة الانتاجية للشركة الأمر الذي يحمل أهمية من حيث تلبية الطلب المتزايد على المسيرات التركية.

كما أدلى المدير العام لشركة بايكار خلوق بيرقدار بتصريحات هامة حول الاتفاقيات مع الجانب السعودي.

ولفت بيرقدار إلى أن بايكار تتحرك مثل" كاسحة الجليد "وتمهد الطريق لشركات الصناعات الدفاعية التركية.

وأشار إلى أن مئات الشركات التركية المنتجة للأنظمة المساندة في مجالي الدفاع والطيران ستتعزز صادراتها بفضل الاتفاقيات التي أبرمتها بايكار.

وأضاف أنه كان هناك منافسون كبار فيما يتعلق بإبرام صفقة التصدير واتفاقية التعاون مع الجانب السعودي.

ونوه أن مسيّرة بيرقدار أقنجي كانت هي الفائزة رغم وجود منافسين بارزين من الصين والولايات المتحدة.

وأكد على أن هناك تعاون قوي واستراتيجي بين تركيا والمملكة العربية السعودية، وأعرب عن اعتقاده أن الجهود المشتركة للبلدين ستسهم في الاستقرار الاقليمي والعالمي.

الاتفاقية المشار إليها من شأنها أيضا زيادة وزن تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) والتأثير على التوازن العسكري الإيراني السعودي من خلال تعزيز القدرات العسكرية للرياض، ومنافسة الجهود الصينية الرامية لزيادة حجم مبيعات الأسلحة إلى الشرق الأوسط. وباستخدام بيانات ملموسة.

إن زيادة حجم الصادرات الدفاعية يتمخض عنه بطبيعة الحال نتائج جيوسياسية. وترتبط هذه النتائج بالظروف الموضوعية إضافة إلى الفعالية القتالية لأنظمة الأسلحة.

إلى ذلك، استحوذت اتفاقية الطائرات المسلحة بدون طيار، التي وقعها "بايكار" مع السعودية، موقع الصدارة على جدول أعمال الاقتصاد الدفاعي، ومن المرجح أن تكون الصفقة واحدة من أكبر مبيعات الصناعات الدفاعية التركية.

وفي الختام، أستطيع القول إن بيع السعودية مسيرات تركية من طراز بيرقدار آقينجي جعل شركة "بايكار" التركية، ومقرها تركيا العضو في حلف الناتو، قادرة على منافسة الصين في قطاع أنظمة الحرب الجوية غير المأهولة في السوق الخليجية خصوصًا والعربية عمومًا، والتي تعد واحدة من أهم أسواق الأسلحة في العالم.

إضافة إلى ذلك، نستطيع القول إن دخول آقينجي إلى المنظمة الدفاعية السعودية سيجعل منها قريبا لاعبا مهما في معادلات التوازن الدفاعي بين إيران والسعودية.

المصدر

 

*العربي الجديد-9/8/2023و9/9/2023

*وكالة الأناضول-11/8/2023 و26/7/2023

وسوم: العدد 1050