المقاومة المستمرة

منذ العدد الماضي، أحدثنا في «مجلة الدراسات الفلسطينية» بداية تحولات جذرية في مسار وطرائق التحرير، وخصوصاً في الأفق الاستراتيجي لتحرير المجلة، وفي معنى صوغ اللحظة السياسية والثقافية والفكرية الراهنة التي تمر بها القضية الفلسطينية والمشرق العربي. وقد لاحظ القارئ تغيراً كبيراً في مجلس تحرير المجلة، إذ أضيف إليها مجموعة من الباحثات والباحثين الشباب الذين أخذوا على عاتقهم مهمة إكمال المسيرة، لأن مسيرة فلسطين تتجدد بتجدد الأجيال التي تحملها. ومسيرة فلسطين طويلة وصعبة وتحتاج إلى جهود متجددة تعيد في كل يوم طرح الأسئلة الكبرى عن معنى فكرة فلسطين. ولا شك في أن هذه المسيرة، مثلما تحتاج إلى خطاب سياسي مبدئي يكون على قدر التحديات والمخاطر، فإنها تحتاج كذلك إلى خطاب معرفي وثقافي حر وتحرري يستند إلى قواعد منهجية وجهد ميداني وكدٍّ دراسي يحوّل الدراسات الفلسطينية من دراسات عن فلسطين بالتعريف والموضوع، إلى دراسات فلسطينية بالفعل والغاية.

هذا العدد، كما العدد الماضي، شارك وساهم في تحريره الأخ الأستاذ عبد الرحيم الشيخ ليس بصفته عضو مجلس تحرير فحسب، بل بصفته محرراً مشاركاً أيضاً، قرر تطوعاً تحمّل مسؤولية العدد، هذا العدد والعدد الماضي وأعداد سابقة بصورة أو بأُخرى، وخصوصاً هذا العدد الذي يصدر في ظروف بالغة الصعوبة أمر بها أنا على المستوى الشخصي منذ إصابتي بالمرض واضطراري إلى البقاء في المستشفى منذ شهرين ونصف شهر تقريباً. الأخ عبد الرحيم الشيخ ليس فقط عضو مجلس تحرير، بل إنه ركن أساسي، وهو ركنها الذي لولا جهده هو وفريق التحرير لما كان لهذا العدد أن يصدر في هذه الظروف الصعبة.

الفكرة المركزية التي انطلقنا منها في إعادة رسم صورة المجلة في أذهاننا وفي ممارستنا هي أن نقدم صورة جديدة للثقافة الفلسطينية والعربية. فنحن نعيش أزمة كبرى، وآن الأوان أن نتخلص من وصف الأزمة لننطلق إلى تقديم حلول لها. فمنذ انهيار الانتفاضة الثانية واستشهاد ياسر عرفات ونحن نعيش أزمة وجود، وأزمة معنى، وأزمة حرية، ومنذ ذلك الوقت ونحن نحاول أن نحلل هذه الأزمة، وأن نكتشف آلياتها. أعتقد أن الأوان آن اليوم كي ننطلق من تحليل الأزمة إلى تقديم بدائل لها. والبديل الذي لم نخترعه نحن، وإنما اخترعه الشعب الفلسطيني في نضاله اليومي، هو المقاومة. لذلك، سيلاحظ القارئ الكريم أن غلاف العدد هو جنين، و»جنين» هنا ليست فقط بمعنى مدينة جنين التي رسمت أفقاً جديداً للمقاومة، هي وشقيقتها نابلس وسائر مدن وقرى ومخيمات فلسطين، بل بمعناها الحرفي، أي أن فلسطين يتشكل في داخلها «جنين» الحياة الجديدة، «جنين» ولادة جديدة، «جنين» وطن جديد.

هذا «الجنين» هو الموضوع الذي ترنو إليه أبصارنا، والذي نريد أن نتماهى به ومعه ونكون جزءاً لا يتجزأ منه. لم تعد الثقافة وصفاً، ويجب ألّا تكون وصفاً لما جرى ويجري. الثقافة فعل تغيير، وجزء من العملية الثورية التي يجب أن تقود، والتي ستقود حتماً إلى تحرير فلسطين.

المحور الأهم في هذا العدد هو محور جنين بمعانيها كلها، عبر حوارية طويلة أجريناها مع الأخ المناضل القائد جمال حويل، عن اللجوء والأَسر والشهادة والمقاومة الشاملة المستمرة في مخيم جنين، وفي فلسطين عامة. وتتضافر مع هذه الحوارية افتتاحية تحررية كتبها الأخ المناضل إبراهيم مرعي في إطار مسعانا الذي بدأناه في مطلع هذا العام لاستضافة قادة الحركة الفلسطينية الأسيرة لكتابة افتتاحية المجلة، وقد سبقتها افتتاحيتان ساهم بهما القائدان الوطنيان مروان البرغوثي وأحمد سعدات، وسيتلوها افتتاحيات من سائر حركتنا الفلسطينية الأسيرة. هذا علاوة على مواد أُخرى تطرح أسئلة ثقافية جوهرية عن مسارنا الفكري الفلسطيني والعربي، وخصوصاً في المعركة المستمرة ضد الكيان الصهيوني الاستعماري، وما يمارسه من إبادة مستمرة في حقّ الشعب الفلسطيني.

وهنا أود أن أؤكد من جديد أننا لا نستطيع عندما نتحدث عن الثقافة الفلسطينية، أن نتخلى أو أن ننسى أن هذه الثقافة هي جزء من الثقافة العربية، وأن مهمة تجديد الثقافة العربية هي مهمتنا نحن أيضاً. فهذا التجديد يهدف إلى إخراجنا من وهدة هذا الانحطاط الشامل الذي تعيشه القارة العربية منذ هزيمة الخامس من حزيران / يونيو 1967.

آن أوان إقفال باب الهزيمة، آن أوان أن ننتهي من النكبة المستمرة، يجب أن تتوقف النكبة ليصبح الشعار الأساسي هو المقاومة المستمرة. لقد عانينا 75 عاماً من النكبات، والآن جاء دور الفعل التاريخي المقاوم كي يُنهي زمن النكبة المستمرة ويؤسس لزمن المقاومة المستمرة.

وسوم: العدد 1050