التمصير والتعريب وجهان لوطن واحد

من أخطر الطعنات التي يمكن أن تطعن بها أي أمة هي تلك التي تستهدف هويتها أو التي تغذي الصراعات العراقية والمذهبية داخلها، وأخشى أن تطال هذه الطعنات الغادرة مصرنا الحبيبة، نظرا إلى وجود كثير من الشواهد لتحركات يد عابثة في هوية هذا البلد العربي المستقرة منذ أكثر من ألف عام، تتمثل في إهدار اللغة العربية في مدارسها، وتحول الغالبية القصوى منها إلى مدارس تدرس كل المناهج بلغات غير اللغة العربية، وامتد الأمر ليشمل يافطات المحال والشركات، وإرشادات الطرق والمرور، وأسماء المنتجعات والأبراج والأحياء الجديدة وغيرها.

يحدث هذا بشكل تدريجي ومتسارع منذ عدة سنوات وزاد عليه مؤخرا الإهمال الواضح للآثار الإسلامية والعربية، وهدم المقابر والقصور التاريخية في منطقة وسط القاهرة والعديد من بقاع مصر بما تحمله من تراث عربي وإسلامي نادر يشي بالكثير من حقب هذا البلد التي تشكلت فيها هويته الحالية، وبدا الأمر متناسقا حتى وصلنا إلى مرحلة نشاط ذباب إلكتروني على وسائل التواصل الاجتماعي يروج بشكل متناغم لفرعونية مصر مقابل إنكار عروبتها.

يستغل هذا الذباب الإلكتروني حالة الانهيار المعرفي والثقافي التي يعيشها كثير من الشباب لنشر دعوته الواهية، وهي تلك الحالة التي تم تصنيعها على مدى عقود بشكل متعمد لاستخدامها في أوقات الانكسار، من أجل تحقيق ما عجز الكارهون لمصر عن تحقيقه عبر مئات السنين.

سترات الشباب

“أنا مصري. مش عربي” شعار مطبوع على السترات التي يرتديها الشباب، وخطورته في أنه صنع تضاربا بين أن يكون المرء مصريا وأن يكون عربيا في نفس الوقت، وهو تضارب تدحضه ثوابت التاريخ ومعلومات السكان والجغرافيا السياسية.

ورغم أن التيار السائد هو كتابة كل شيء بالإنجليزية -وكأننا إنجليز- في دولة لفظ “العربية” ضمن اسمها الرسمي، نجد أن هذا الشعار المريب مكتوب باللغة العربية بأشكال مبهجة واحترافية بما يعني أنه يستهدف هؤلاء الذين لم يتح لهم تعلم شيء غير العربية، مما يؤكد سوء النية والمقصد.

وما إن تصدر الهاشتاج الخاص بهذا الشعار موقع تويتر بعدد يقل عن ألفي تغريدة فقط حتى راحت وسائل الإعلام العالمية تلقي الضوء عليه بوصفه مطلبا يعبر عن رغبة كثير من المصريين، رغم أن كافة التغريدات التي كتبت تحته كانت تسخر منه أو تهاجمه.

بوتقة صهر

هوية مصر أمر تم حسمه اجتماعيا وثقافيا على مدار عدة قرون، والحديث فيه مجددا مع الأمل في تغييره لهو ضرب من الخيال لا يمكن أن يحدث متى أدرك الناس المؤامرة؛ لأنه يمس معتقداتهم وتراثهم.

مر الكثيرون من هنا الفراعنة والرومان والفرس والإغريق واليونانيون والهكسوس والأحباش والصوماليون والسودانيون، والمماليك والأوزبك والأذريون والأتراك والأكراد والنوبة، واليهود وعبدة الأوثان، واستقر الأمر على مدار سنوات طويلة بأن دانت أغلبية هذا الشعب بالإسلام وتعربت بثقافته.

والحقيقة أن مَثَل مصر كَمَثَل بوتقة صهر؛ لأنها تذيب في قدرها القوميات والأعراق والأجناس، لتخلق لنا هذا المزيج الثقافي والفكري المتدثر برداء العروبة والإسلام، وهو الرداء الذي لا يمنع في ذات الوقت تنوع الاعتقاد والثقافات.

لم يكن هناك إجبار للأقليات على التعرّب بدليل أنه في ظل الحملة الفرنسية والاحتلال الإنجليزي لمصر؛ وجدنا المسيحي يتحدث العربية ويؤدي طقوسه الكنسية بالعربية ويمارس ثقافته الاجتماعية العربية دون أن يجبره أحد على ذلك، وفي المقابل وجدنا مستشرقين غربيين يحاربون الدين السائد لدى شعوبنا في صورة دعوات إلى الشعوبية في حين وجدنا الغرب على تعدد أعراق ولغات كل دولة فيه يؤمن بالدولة الواحدة واللغة السائدة.

الخطر الإقليمي

وتتشابه تلك الحملة التي تحاول إيهام سفهاء القوم بوطنيتها وسعيها لتمصير مصر، مع حملة أخرى قديمة كانت أوسع نطاقا وتأثيرا على امتداد رقعة الوطن العربي، صدقها للأسف قسم كبير من الناس حينئذ، وشكلوا على أساسها أحزابا وحكومات وحركات ومنظمات، ثم نفر منها كثيرون بعد اكتشافهم عدم استيفائها واجبات “الحجية والمنطق”، إنها تلك الحملة التي فصلت بين العروبة والإسلام وحاولت جعلهما خصمين رغم أنهما وجهان لعملة واحدة.

أما خطورة تلك الدعوات الخبيثة الرامية إلى التخلص من عروبة مصر فهي في أنها قد تفتح أبواب الجحيم والخراب والتمزق بين أنسجة المجتمع الواحد ليس في مصر وحدها بل في دول المغرب العربي وشمال إفريقيا وسوريا والعراق ولبنان، فظهر من يقول “أنا آشوري مو عربي” و”أنا سورياني مو عربي” و”أنا كردي مو عربي”، مع أن العربية لم تمح لغاتهم ولكنهم هم طواعية انصرفوا عنها وحدثوا العالم بالعربية بعدما صارت لغة عالمية بسبب انتشار الإسلام وريادته.

وهو ما يؤكد وجود المؤامرة الهادفة إلى انفراط عِقد هذه الدول في صدامات قد تدوم قرونًا، ولن تنتهي إلا بالعودة إلى اللحمة الثقافية السائدة حاليا، التي لا تمنع التعدد الثقافي، وتعتبر أن الثقافة الإسلامية التي تجمع شعوب هذه المنطقة هي هويتها الحضارية، وهي بالقطع ثقافة عربية في مجمل تفاصيلها.

وقديما اتفق السابقون منذ أيام العرب المستعربة على أن العروبة ليست جنسا بل هي لغة، فمن يتحدثها فهو عربي ندّ للعرب العاربة، حتى لو كانت بجوار لغته الأم، وقبول القوميات الأخرى في وطننا العربي قديما لهذا المبدأ يعد برهانا للحكمة والعدالة، ويؤكد أن ما حدث فتح لا استعمار.

أتمنى أن نكون على خطأ في مخاوفنا تلك على ضياع هوية بلادنا العربية، ولكننا في ذات الوقت نحتاج إلى ما يدعم اطمئناننا مع سرعة تصويب الانحراف.

وسوم: العدد 1051