حصار غزّة: 17 سنة من الهمجية المستدامة

حملات التضامن مع قطاع غزّة، الذي يخضع منذ العام 2006 لحصار إسرائيلي خانق وجائر، تتنوّع وتتباين من حيث الأشكال والمضامين؛ وقد تبدأ من تبرعات مطاعم فلافل إسطنبولية، فتمرّ بسفينة مرمرة الشهيرة ضمن «أسطول الحرّية»، والأرجح أنها لن تنتهي عند مبادرات من نوع «السباحة في غزّة» أو «افتحوا موانئ غزّة». بيد أنّ القاسم المشترك بينها، أو سواها أياً كانت الطرائق والجهات المنظمة والجنسيات، هو تسليط المزيد من الأضواء على حرب همجية مستدامة، لا تخوضها دولة الاحتلال وحدها، بل تشارك فيها الولايات المتحدة، وتسعة أعشار الديمقراطيات الغربية، وحفنة أنظمة عربية لاهثة خلف قاطرات التطبيع…

صحيح أنّ البرابرة صنّاع هذا العقاب الجماعي يحملون الجنسية الإسرائيلية، إلا أنّ الأدوات أمريكية بنسبة 90%، والتغطية السياسية للعدوان، فضلاً عن مختلف أشكال التعتيم الإعلامي، أمريكية – غربية بامتياز؛ والحديث هنا يخصّ الحكومات والمؤسسات وليس الشعوب ذاتها، التي عبّرت عن مواقف مختلفة هنا وهناك. وفي وسع المرء أن يبدأ من معزوفة متكررة أولى عنوانها «تفهّم» حاجات إسرائيل الأمنية، وإدانة «صواريخ حماس»؛ أو معزوفة ثانية تردّد حقّ الاحتلال في «اتخاذ كلّ التدابير ضدّ التهديدات»؛ أو معزوفة ثالثة تستكمل أنغام الطنبور…

وحملات التضامن وسيلة للتذكير ــ من جديد… كما في كلّ جديد عتيق! ــ أنّ أوروبا القارّة العجوز، أمّ أنظمة الاستعمار وفلسفات الأنوار، عاجزة تماماً عن اعتماد سياسة خارجية مستقلة قيد أنملة عن تلك السياسات التي تعتمدها الولايات المتحدة، إزاء قضايا الشرق الأوسط بالطبع، وحصار غزّة على وجه أوضح وأخصّ. وهذا حصار ينتهك كلّ عرف أو قانون أو قاعدة، فيعيد تظليل قسمات النظام الدولي الذي استجدّ بعد سقوط جدار برلين وانهيار أنظمة الاستقطاب القديمة.

فهل تحتاج الديمقراطيات الغربية إلى تقرير آخر دامغ غير ذاك المعياري الذي أصدرته خمس منظمات دولية رئيسية مختصة بالإغاثة وحقوق الإنسان، بينها العفو الدولية و»أوكسفام»، حول الأوضاع الإنسانية في غزّة؛ التي بلغت درجة من التدهور والسوء والخطورة لم يعرف القطاع مثيلاً لها منذ 1967؟ وأيّ حافز، لإنهاء الحصار، أو حتى تخفيف تدابيره الهمجية، يمكن أن تحرّكه سلسلة حقائق رهيبة تُطرح في كلّ صباح: ابتداء من ساعات انقطاع الكهرباء التي تزيد عن 12 ساعة، واعتماد 80% من العائلات في غزّة على موادّ الإغاثة؛ مروراً بارتفاع نسبة البطالة إلى أكثر من 50%، وتوقف 95% من الأشغال الصناعية؛ وانتهاء بفشل الحصار في إضعاف منظمة «حماس»، وإنجاز العكس وتقوية شوكتها السياسية والعسكرية والعقائدية؟

وليست نكتة ثقيلة الظلّ غضبةُ دولة الاحتلال ضدّ انتقادات «المجتمع الدولي» للعمليات العسكرية البربرية في غزة، أو للحصار؛ إذْ يلجأ القادة الإسرائيليون إلى ردّ مزدوج: أنّ الاحتلال لا يتلقى الدروس الأخلاقية من أحد، حتى من أعرق الديمقراطيات الغربية، ومن أعتق وأقرب الحلفاء (الولايات المتحدة)؛ وأنه، تالياً، يطالب المنتقدين بتذكّر أفعالهم في البلقان والعراق وأفغانستان، قبل الشكوى من قصف غزّة وحصارها.

يبقى، بالطبع، أنّ 17 سنة من الحصار الإسرائيلي المفروض على غزّة عكست، سنة تلو الأخرى، انصهار تيّارات وأحزاب وأطياف وضمائر أبناء دولة الاحتلال، السواد الأعظم منهم عملياً، ما خلا قلّة قليلة محدودة منفردة معزولة، في بوتقة التهليل الصاخب تارة أو الصامت تارة أخرى؛ ليس من دون أصوات تتلذذ بمتابعة الموت الغزاوي على شاشات التلفزة، أو كلما خرّ فلسطيني إضافي وغرق في بركة من دماء.

وهذه، في أوّل المطاف وآخره، هي روح الطور الراهن من الكيان الصهيوني: غوص في الدماء، وتمترس أكثر في عقلية القلعة المحاصَرة (المحاصِرة)، وغرق في مزيد من كوابيس الوجود وصراع البقاء وما تبقى من «الواحة الديمقراطية الوحيدة»، وعنصرية، وجرائم حرب، وانزلاق أسرع فأسرع نحو الأبارتيد.

وسوم: العدد 1052