من المستفيد من القدح في استقلالية القضاء؟

يقول الرسول صلى الله عليه "كلُّ بني آدم خَطَّاءٌ، وخيرُ الخَطَّائِينَ التوابون"، أي لا أحد معصوم من الخطأ إلا الأنبياء والرسل، وما دام الأمر كذلك، فإن عددا من القضاة باعتبارهم بشرا يتعرضون للخطأ لا محالة، سواء أكان ذلك عن قصد أو عن غير قصد، وهو الأمر الذي قد يتسبب في ضياع حقوق عدد من المتقاضين المشمولين بالخطأ، خاصة إذا افترضنا صدور الأحكام بصفة نهائية لا رجعة فيها بمجرد النطق بها لأول مرة. وبما أن الأمر ليس كذلك في الواقع، بحيث يتم اللجوء إلى محكمة الاستئناف وبعدها إلى محكمة النقض في حالات كثيرة، وهو ما لا يعني بالضرورة انتفاء الخطأ بصفة نهائية، بقدر ما يعني التقليص من احتمال وروده إلى أدنى المستويات، على الأقل على المستوى النظري، ومع ذلك فالقضاة لا يَسلَمون في كثير من الأحيان من اتهامهم بالتحيز للطرف الآخر، من قِبَل الذين لا تُرضيهم الأحكام الصادرة في حقهم، أو في حق غيرهم، وهو ما يُفهم منه أن هؤلاء يعتقدون بِمُجَانَبَةِ القضاء للصواب والعدل في الأحكام التي يُصدرها بالنسبة للقضايا والحوادث موضوع الاتهام. وهذا الأمر، وإن كان مَرَضِيا، وهو كذلك، خاصة في حالة انعدام معطيات ملموسة تثبت التهمة، فيمكن أن نعتبره تجاوزا أمرا "عاديا"، بالنسبة للعامة الذين تَغلُب عليهم العاطفة في تقدير الأمور، في غياب ثقافة قانونية أو دينية أو هما معا، تُشعرهم بمسؤولية الكلمة وعدم الاستهتار بها، مصداقا لحديث الرسول صلى الله عليه المعروف بحديث: " وهل يكب الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم". أما حينما تصدر هذه الاتهامات من وزير العدل نفسه، فالأمر لن يكون عاديا ولا معقولا، ذلك أن وصفه للحكم الابتدائي الصادر في حق المعنيين بما سمي بقضية اغتصاب تيفلت "بغير المفهوم"، "يشكل خرقا خطيرا لاستقلالية القضاء" حسب تعبير رئيس نادي قضاة المغرب. ولعل أحد المؤشرات الدالة على هذا الخرق، ذلك التباين الكبير بين الحكم الابتدائي الذي بُني على "ما ثَبت من وقائع ومعطيات ثبوتا قطعيا، وما توفر من ظروف وملابسات" حسب رئيس نادي قضاة المغرب نفسه، وبين الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف، مع العلم أن هذا الأخير جاء ملبيا لمطلب السيد الوزير، ومطلب عدد من الجمعيات النسوية، التي طعنت بدورها في الحكم الابتدائي، مستغلة الفرصة لخدمة رزنامة الأهداف المنضوية تحت ما يسمى "بحقوق الإنسان الكونية". ومما يوحي بتمادي السيد الوزير في هذا الخرق، واستهداف استقلالية القضاء عن سبق إصرار وترصد، تصريحه الأخير في جلسة للأسئلة الشفوية بمجلس النواب، الذي قال فيه بأن "الأحكام القضائية في المغرب قاسية، ومن يستحق سنة حبسا يُحكم عليه بخمس سنوات، ومن يستحق عشر سنوات يُحكم عليه بعشرين سنة".

والسؤال الذي يَطرح نفسه هو: ما الهدف، ومن المستفيد من هذا النوع من التدخلات والتصريحات التي تقدح في استقلالية القضاء؟ وتضرب مبدأ فصل السلط في العمق؟

لنفترض جدلا أن كلام السيد الوزير يخالطه بعض الصواب، فذلك يعني شيء من اثنين، إما أن القضاة ينقصهم الإلمام الكافي بالقوانين المعتمدة في إصدارهم للأحكام، بما يسمح لهم بتجسيدها على أرض الواقع بالكيفية الصحيحة التي تشيع العدل بين المتقاضين، إما أن هذه القوانين تتضمن في حد ذاتها هفوات ونقائص، تؤدي بالقضاة إلى استحضار الذاتية، وتغييب الموضوعية، التي تعتبر الأساس الذي لا يمكن الاستغناء عنه لإصدار أحكام عادلة، كما يمكن أن يعني أن الخلل قد أصاب النصوص والقضاة معا، ويبقى السؤال الذي يتعين على السيد الوزير الإجابة عنه قبل أن يصدر تصريحاته المجانية: من المسؤول عن هذا الوضع؟ وقبل ذلك ما هي الدراسات الميدانية التي تثبت صحة هذه التصريحات؟

وفي غياب أجوبة موضوعية ومقنعة، فإني أرجح احتمال انخراط السيد الوزير في تنزيل أجندة الجهات الضاغطة على المغرب، من أجل ملاءمة قوانينه مع القوانين "الكونية"، على رأسها إلغاء عقوبة الإعدام، وعدم تجريم الخيانة الزوجية، والزنا، والشذوذ الجنسي، وما إلى ذلك مما جُنِّدت له مجموعة من الجمعيات والمنظمات المُستأجرة والمستفيدة حصريا من ضرب استقلالية القضاء.

ومما لا شك فيه أن فقدان القضاء لاستقلاليته لا قدر الله، سيضفي مزيدا من المصداقية على الاتهامات التي يكيلها عامة الشعب وخاصتهم للقضاء والقضاة، مما يؤدي بالضرورة إلى فقدان الثقة في الأحكام القضائية، خاصة تلك التي لا تتوافق مع رغباتهم، بغض النظر عن كونها مطابقة أو غير مطابقة للقوانين الجاري بها العمل، مما يضخم الإحساس بالغبن والظلم، الذي يؤدي لا محالة إلى اللجوء إلى الأساليب الملتوية، من قبيل العنف والرشوة، وغيرهما من الأساليب التي تفضي منطقيا إلى زعزعة الأمن والاستقرار، اللذان يعتبران من الركائز الأساسية في ازدهار البلدان وتقدمها.

في الأخير أرجو أن يعي السيد الوزير خطورة تصرفاته في هذا الشأن، ويعلم أنه لن يكون بمنأى عن عواقبها الكارثية، وأن المنصب الذي يعتد به للتجرؤ على قيم وثوابت الأمة لن يدوم طويلا، وله فيمن سبقه من الذين تورطوا في تمرير عدد من الإملاءات الخارجية المنافية للمصلحة العليا للبلاد، ولقيمها وثوابتها عبرة، قبل فوات الأوان.

وسوم: العدد 1058