عندما تؤطر "الذلقراطية" مشاورات تعديل مدونة الأسرة

لا يمكن لأحد أن ينكر أهمية التشاور بين أفراد المجتمعات الإنسانية بصفة عامة، والمجتمعات الإسلامية بصفة خاصة، في الأمور الحيوية التي قد تستلزم بالإضافة إلى التشاور الداخلي، استشارة ذوي الاختصاص حتى من خارج الدائرة إن اقتضى الأمر ذلك، علما أن الله قد امتدح المؤمنين بصفة التشاور على غرار مجموعة من الصفات التي يتميزون بها عن غيرهم، حيث قال عز من قائل﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ بل وأَمَر رسوله صلى الله عليه وسلم بمشاورتهم طبقا للآية 159 من سورة آل عمران ﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾.

ومما لا شك فيه أن مراجعة مدونة الأسرة من بين الأمور التي تستلزم التداول والتشاور في شأنها، بهدف تجاوز نقط الضعف، التي تم رصدها أثناء مرحلة العمل بفحوى نسخة 2004، والعمل على تعديلها بما يُمَكِّن من جهة، من ترسيخ قيم التآزر والتعاضد والتناصر، ومن جهة ثانية، من نبذ الأثرة والأنانية التي تؤدي بالضرورة إلى التخاصم، ومنه إلى التفرقة إن على مستوى الأسر، أو على مستوى المجتمع ككل. من هذا المنطلق يُمكِن فهم تأكيد جلالة الملك على إسناد قيادة عملية التعديل بشكل جماعي ومشترك، لكل من وزارة العدل، والمجلس الأعلى للسلطة القضائية، ورئاسة النيابة العامة، مع الدعوة إلى إشراك كل من المجلس العلمي الأعلى، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والسلطة الحكومية المكلفة بالتضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، لكونها معنية بشكل مباشر بالموضوع، دون أن يُهمل ضرورة الانفتاح على هيئات وفعاليات المجتمع المدني.

غير أن التساؤل عن مواصفات الهيئات والفعاليات المعنية بالاستشارة يبقى تساؤلا مشروعا، على اعتبار أن الإطار العام للتعديلات ينبغي أن يندرج ضمن المرجعية الإسلامية لدواع متعددة أهمها: تنصيص الدستور على كون الإسلام دين الدولة، تصريح جلالة الملك الذي لا يَحتمل التأويل، بأنه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، ثم تزامن عملية التعديل مع السياق الحالي، الذي نزع اللثام عن حقيقة ما يسمونه بالقيم الكونية، حيث تبين أن حكام الغرب لا يولونها أي اهتمام، إذا كانت تمثل أدنى عائق أمام تحقيق أهدافهم المعلنة والخفية على السواء، كما تمت البرهنة على ذلك بالملموس من خلال الجرائم المقترفة، والتي لا زالت تقترف في حق الشعب الفلسطيني. من هذا المنطلق يبقى على المؤسسات المكلفة بتجسيد مضمون الرسالة الملكية الاجتهاد في تحديد مواصفات هذه الفعاليات، بما يتناغم مع الدواعي المشار إليها أعلاه، بحيث يتعين توفرها على الحد الأدنى من الشروط التي تُكسِب مشورتهم المصداقية اللازمة لدى مختلف شرائح المجتمع. ونظرا لتعدد هذه الشروط، فسأكتفي بذكر ما بدا لي كحدٍّ أدنى لاستحقاق شرف الاستشارة، وهي كالتالي: الإيمان بالله سبحانه وتعالى والتوكل عليه؛ اجتناب كبائر الإثم والفواحش؛ الاتصاف بالصدق والأمانة؛ حيازة الكفاءة العلمية مع سلامة التفكير؛ الاتصاف بحسن السيرة والسلوك...

لست أدري ما هي وكم هي الأطراف التي تمت استشارتها لحد الآن، لكني علمت باستدعاء الأستاذ عصيد رفقة مجموعة من الجمعيات النسوية، واطلعتُ على تصريح كل من الأستاذ عصيد وإحدى المنتسبات لهذه الجمعيات، وتبين لي بالملموس خلوهما من أدنى هذه الشروط، على غرار ما هو معروف لدى هذه الفئة المستأجرة لدى الغرب وأذنابه من الطابور الخامس، والمضحك المبكي في الأمر هو استعانة ما سمي ب "تحالف الحركة الأكبر لإلغاء زواج القاصرات" بمجموعة من الفتيات اللواتي قدمن مسرحية "تشخص معاناة طفلة تم تزويجها بسبب فقر عائلتها "، في الوقت الذي خبا فيه صوت مجموعة من القامات العلمية.

لا أعتقد أن مكونات اللجنة الملكية تجهل افتقار عصيد وعدد من تلك الجمعيات المنسوبة قسرا للمجتمع المدني، للتزكية المجتمعية، ولا طبيعة المرجعية التي يستندون إليها، والتي يعتبر العداء لكل ما له علاقة بالمرجعية الإسلامية، بما فيها الأحكام القطعية التي يتصدرها الإرث هَمُّها الأساسي، في مقابل الدفاع المطلق عما يسمى "بالقيم الكونية"، مع انفراد عصيد بالنفخ في النعرات العنصرية التي تتوخى تبغيض الأمازيغ في العرب والمسلمين. ومن ثم أُقَدِّر أنه لم يبق من مبرر لتشريف مَنْ له هذه المواصفات بالاستشارة في موضوع يكتسي أهمية بالغة بالنسبة لمستقبل المغاربة على غرار مدونة الأسرة، سوى إرضاء الجهات الوصية على الديموقراطية. وإذا كان الأمر كذلك، فالمصطلح الأدق في التعبير عن مثل هذا الواقع، لن يكون سوى مصطلح "الذلقراطية" حسب المرحوم المهدي المنجرة، خاصة إذا استجابت الصيغة النهائية للمدونة لمطالب هذه الشريحة.

وسوم: العدد 1058