النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين 2+3

النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين

أصولها، أسبابها ونتائجها/2

ثراء ملوك الفرس

تحدث المتعصبون للفرس عن ثراء الملوك الفرس، وما كان لهم من كنوز وجواري وعبيد وعساكر وسلاح ما لا يوجد عند غيرهم من الملوك الذين عاصروهم، وهذا مؤرخ في كتب الفرس التي دونت سيرهم العظيمة على حد زعمهم مثل كتاب الشاهنامة.

استشهدنا بقول فارسي حول هذا الشأن، فقد قال يحيى بن خالد البرمكيّ: الملوك خمسة: ملك الأثاث، وملك الدوابّ، وملك المال، وملك الفيلة، وملك الإكسير. فأما ملك الأثاث فملك الصين، وملك الدوابّ ملك الترك، وملك المال ملك العرب، وملك الفيلة ملك الهند، وملك الإكسير فملك الروم". (كتاب البلدان للهمداني/ 183). كما ذكر السيرافي في رحلته "ان ملوك الهند يعمّرون ربما ملك احدهم خمسين سنة، ويزعم أهل مملكة بلهرا: انما يطول مدة ملكهم وأعمارهم في الملك لمحبّتهم للعرب، وليس في الملوك أشد حبّا للعرب منه، وكذلك أهل مملكته. وعندهم ملك يدعى ملك الجرز، وهو كثير الجيش ليس لأحد من الهند مثل خيله، وهو عدّو العرب غير انه مقرّ أن ملك العرب أعظم الملوك وليس أحد من الهند أعدى للإسلام منه". (رحلة السيرافي/35).

وأضاف السيرافي" قال ملك الصين للترجمان كي ينقله الى التاجر البصري ابن وهب بن هبار بن الأسود: قل له إنا نعدّ الملوك خمسة فأوسعهم ملكا الذي يملك العراق لأنّه في وسط الدنيا، والملوك محدقة به، ونجد اسمه عندنا ملك الملوك وبعده ملكنا هذا ونجده عندنا ملك الناس لأنه لا أحد من الملوك أسوس منّا ولا أضبط لملكة من ضبطنا لملكنا، ولا رعيّة من الرعايا أطوع لملوكها من رعيّتنا، فنحن ملوك الناس، ومن بعدنا ملك السّباع وهو ملك التّرك الذي يلينا، وبعدهم ملك الفيلة وهو ملك الهند، ونجد عندنا ملك الحكمة لأن أصلها منهم، وبعده ملك الروم، وهو عندنا ملك الرّجال، لأنّه ليس في الأرض أتمّ خلقا من رجاله ولا احسن وجوها، فهؤلاء أعيان الملوك، والباقون دونهم". (رحلة السيرافي/61).

فأين ملوك الفرس؟ وأين موقعهم من هؤلاء الملوك العرب؟

كما نقل أبو العيناء الهاشمي عن القحذمي عن شبيب بن شيبة قوله" كنا وقوفا بالمربد، وكان المربد مألف الأشراف، إذ أقبل ابن المقفع، فأبششنا به وبدأناه بالسلام، فردّ علينا السلام، ثم قال: لو ملتم إلى دار نيروز وظلها الظليل، وسورها المديد، ونسيمها العجيب؛ فعودتم أبدانكم تمهيد الأرض، وأرحتم دوابّكم من جهد الثقل؛ فإن الذي تطلبونه لم تفاتوه، ومهما قضى الله لكم من شيء تنالوه! فقبلنا وملنا؛ فلما استقرّ بنا لمكان قال لنا: أيّ الأمم أعقل؟

فنظر بعضنا إلى بعض؛ فقلنا: لعله أراد أصله من فارس، فقلنا: فارس.

فقال: ليسوا بذلك؛ إنهم ملكوا كثيرا من الأرض، ووجدوا عظيما من الملك، وغلبوا على كثير من الخلق، ولبث فيهم عقد الأمر؛ فما استنبطوا شيئا بعقولهم، ولا ابتدعوا باقي حكم بنفوسهم.

قلنا: فالروم! قال: أصحاب صنعة. قلنا: فالصين! قال: أصحاب طرفة. قلنا: الهند! قال: أصحاب فلسفة. قلنا: السودان! قال: شر خلق الله. قلنا: الترك! قال: كلاب ضالة. قلنا: الخزر! قال: بقر سائمة. قلنا: فقل أنت! قال: العرب. فضحكنا من قوله.

فقال: أما إني ما أردت موافقتكم، ولكن إذا فاتني حظي من النسبة، فلا يفوتني حظي من المعرفة؛ إن العرب حكمت على غير مثال مثل لها، ولا آثار أثرت؛ أصحاب إبل وغنم، وسكان شعر وأدم؛ يجود أحدهم بقوته، ويتفضل بمجهوده، ويشارك في ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسّن ما شاء فيحسن، ويقبّح ما شاء فيقبح؛ أدّبتهم أنفسهم، ورفعتهم هممهم، وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم؛ فلم يزل حباء الله فيهم وحباؤهم في أنفسهم، حتى رفع لهم الفخر، وبلغ بهم أشرف الذكر، وختم لهم بملكهم الدنيا على الدهر، وافتتح دينه وخلافته بهم إلى الحشر على الخير فيهم ولهم؛ فقال تعالى في سورة الأعراف/128(( إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) فمن وضع حقهم خسر، ومن أنكر فضلهم خصم؛ ودفع الحق باللسان أكبت للجنان". (العقد الفريد3/279).

تأريخ الفرس وعلومهم قبل الإسلام

ذكر ابن حزم" الفرس: لا يصح شيء من أخبارهم قبل دارا وأصح أخبارهم ما كان من عهد أردشير". (رسائل ابن حزم2/9). كما ذكر أردشير بن بابك: إن الأرض أربعة أجزاء: جزء منها للترك، وجزء للعرب، وجزء للفرس، وجزء للسّودان". (نهاية الأرب1/207).

أما فيما يتعلق بتواريخ الفرس، فسيرد على هذا القول كاتب فارسي من أصفهان هو حمزة الأصفهاني، المؤرخ المعروف عن تواريخ الفرس بقوله" تواريخهم (الفرس) كلها مدخولة غير صحيحة، لأنه نقلت بعد مائة وخمسين سنة من لسان إلى لسان، ومن خط متشابه رقوم الأعداد إلى خط متشابه رقوم العقود". (كتاب البلدان للهمداني/22).

وعن علومهم وعلوم العرب وغيرهم قال الراغب الاصفهاني:

علوم العرب: علم بديع الشعر، وبلاغة المنطق، وتشقيق اللفظ، وتعريب الكلام، وقيافة البشر، وقيافة الأثر، وصدق الحسّ وصواب الحدس، وحفظ النسب، ومراعاة الحسب، وحفظ المناقب والمثالب، وتعرّف الأنواء، والاهتداء بالنجوم، والتبصّر بالخيل والسلاح واستعمالهما، والحفظ لكل مسموع، والاعتبار بكل محسوس، ويبلغون بالزجر ما يقصر عنه غيرهم.

علوم الرّوم: لهم الطب والنجوم والألحان وجودة التصوير، حتّى إن أحدهم يصور الإنسان شابا وكهلا، فيجعله بحيث إذا رأى صورته ثم رآه عرفه. ولهم البناء العجيب ولهم من الرأي والنجدة والمكيدة ما لا ينكره من يعرفه.

علوم الفرس: لهم العقول والأحلام، والسياسة العجيبة، وترتيب العلوم والأمور، والمعرفة بعواقب الأمور. ولهم من اللغات ما لا يحصى كثرة، كالزمزمة والفهلوية والخراسانية والجبلية.

علوم اليونان: اليونانيون كانوا ذوي أذهان بارعة، ولا يشتغلون بمكاسب الآلات والأدوات والخلال، التي تكون جماما للنفوس. ولهم القبّانات والاضطرابات، وآلات الرصد والبركار، وأصناف المزامير والمعازف، والطب والحساب والهندسة، وآلات الحرب كالمجانيق والغرادات. وكانوا أصحاب حكمة ولم يكونوا عملة. كانوا يصورون الآلة ولا يخرطون الأداة، يشيرون إليها ولا يمسّونها، يرغبون في التعلم ويرغبون عن العمل.

علوم الصّين: أهل الصين أصحاب الأعمال، كالسبك والصياغة والإفراغ والإذابة والأصباغ العجيبة، والخرط والنحت والتصاوير، والخطّ والنسج ورفق الكف في كل ما تناولوه. وكانوا يباشرون العمل ولا يعرفونا الملل لأنهم فعلة، واليونانيون يعرفون العلل، ولا يباشرون العمل لأنهم حكماء.
علوم الهند: لهم معرفة الحساب والنجوم، والخط الهندي وأسرار الطب، وعلاج فاحش الأدواء والرقى وعلم الأوهام، وخرط التماثيل ونحت الصور، وطبع السيوف والشطرنج والحنكلة. وهي وتر واحد يجعل على قرعة فيقوم مقام العود ولهم ضروب الرقص والثقافة والسحر والتدخين.

علوم التّرك: هم كالعرب، في أنهم أصحاب قيافة ومعرفة بالحروب وآلاتها، وهم أعراب العجم، كما أن العرب أكراد النبط. فصاروا في الحرب كاليونانيين في الحكمة، والصين في الصناعة، وهم في البيطرة والرياضة فوق كل أمة. وأحدهم يركب ظهر فرس فوق ركوبه الأرض يغزو أحدهم بأرماكه ومهورة، فمتى أتعب واحدة ركب أخرى فلا يستريح ولا ينزل إلى الأرض". (محاضرات الأدباء1/194).

قال الجاحظ" أمّا سكّان الصين فهم أصحاب السّبك والصياغة، والإفراغ والإذابة والأصباغ العجيبة، وأصحاب الخرط والنّحت والتصاوير، والنّسخ والخطّ، ورفق الكفّ في كلّ شيء يتولّونه ويعانونه، وإن اختلف جوهره، وتباينت صنعته، وتفاوت ثمنه". (الرسائل السياسية/509).

ولأهمية هذا الموضوع، وتقديم صورة واضحة عن طبيعة ما يسمى بالحضارة الفارسية قبل الإسلام، وإزالة الغشاوة عن هذا اللبس الذي يتنكر للإسلام، وينفي دوره في أرساء وبناء الحضارة الفارسية، بل ويحمله مسؤولية تدمير ما يسمى بالحضارة الفارسية المزعومة، في نظرة أقل ما يقال عنها محاولة يائسة وفاشلة للتعالي على العرب، والنظرة لهم نظرة دونية. لذا نقدم هذا المبحث الذي يؤكد بأن الحضارة الفارسية بدأت بعد الفتح الإسلامي، وليس قبله، وإنها أي الحضارة العربية قد هذبت الثقافة الفارسية ولم تشوهها كما يزعم الفرس الناكري الجميل لفضل العرب والمسلمين، وإنها رسخت القيم الإنسانية والأخلاقية الجديدة ونقتها من الأفكار المجوسية الخاطئة، ونقلتها الى القيم الإسلامية الصحيحة. لم يكن الفتح الإسلامي لبلاد فارس إلا بداية لإشعاع نور الإيمان والتطور في النفق المجوسي المظلم، فقد بنى الإسلام القيم الأخلاقية على إنقاض الخراب المجوسي، وأهدى الفرس الى طريق النور والمحبة والتسامح، فلا حضارة للفرس قبل الإسلام كما سنوضح.

ان التجني على الإسلام ـ ما زال الكثير من المراجع الفرس يعزفون على هذا الوتر ـ إنما هو تجني وظلم للإسلام ورموزه الكبار، ومحاولة رعناء للنيل من الخليفة الفاتح الفاروق وكبار القادة المسلمين الذي كان لهم شرف نشر الإسلام وقيمه المجيدة في بلاد فارس. إنه لأمر يثير الاشمئزاز والتقزز عندما يبنى مقام ومزار لأبي لؤلؤة قاتل عمر الفاروق، في حين يحتفل الفرس في يوم مقتل الفاروق الذي مدٌ لهم يد الغوث وأنقذهم من مستنقع المجوسية وأوصلهم إلى مرفأ الإيمان والنجاة.

سوف نناقش الموضوع من عدة محاور:

  1. مفهوم الحضارة

غالبا ما يتحدث عن الحضارة ممن لا يفطن إلى مفهومها وجوهرها، فيخلط بينها وبين العمران والثقافة والمدنية والقوة العسكرية والعامل الديني، مع أن الحضارة قد تشمل كل هذه الصفات وغيرها، وعندما يقتصر مفهوم الحضارة على جانب واحد فقط، تُفرغ الحضارة من مفهومها المتكامل، مثلا عندما تقول أن الحضارة هي القوة العسكرية والتوسع على حساب بقية البلدان الأضعف فهذا اعتراف ضمني بأن المغول أصحاب حضارة كبيرة، والمقدونيون أيضا وكل القوى الاستعمارية هي حضارات متقدمة، وأن الدول التي استبيحت من قبل الدول الأقوى لا تعد حضارات فتلغى الحضارة الإسلامية والهندية والإغريقية وغيرها، وهذا لا يصح البتة. كما أن اعتماد العامل الديني فقط لا يتوافق مع المؤشرات الواقعية، فالحضارات الصينية والهندية وما سبق الديانات السماوية الثلاث لا ترتبط بتعاليم سماوية، وأنما تعاليم وضعية.

الحضارة تعني التطورات العلمية والتقنية والأدبية النظرية منها والتطبيقية عند الأمم، مترادفة مع التطور الاقتصادي والثقافي والاجتماعي والعمراني. وفي هذا التعريف يمكن الجمع ما بين الفريقين المختلفين من العلماء والفلاسفة الذين يرى التيار الأول: أن الحضارة تقتصر على المظاهر الفكرية السائدة في المجتمعات البشرية، في حين يرى التيار الثاني: إنها خلاصة التطورات البشرية في المجالات العلمية والفنون والعمران، ويضيف لها (ماكيفر) الآداب والديانات والمثل الأخلاقية. في حين يركز (البرت شفيستر) على نقطتين مهمتين هما التقدم الروحي والمعنوي. أما العالم الموسوعي ( ول ديوارنت) فأنه يعتمد في موسوعته الشهيرة قصة الحضارة على الأسس الأربعة الآتية: الموارد الاقتصادية، النظام السياسي، العادات، التقاليد، العلوم والفنون. مضيفا" أن الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي، وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمن الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها".

في حين أنفرد المؤرخ البريطاني (ارنولد تونبي) عن غيره بإضافة العامل الديني متمثلا بالكنيسة الكاثوليكية زاعما بعصبية واضحة " أن الحضارة الغربية هي وحدها التي تحافظ على الشرارة الإلهية الخلاقة، وهي وحدها القادرة على أن تؤول إلى ما آلت إليه سابقاتها. مضيفا أن الحضارة هي" حصيلة عمل الإنسان في الحقل الاجتماعي والثقافي، وهي حركة صاعدة، وليست وقائع ثابتة وجامدة، إنها رحلة حياتية مستمرة لا تقف عند مينائه". وهذا الرأي المتعلق بعامل الدين مقارب لما جاء به مالك بن نبي، وربما مُستوحى منه، بقوله" الحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة الوحي يهبط من السماء، ويكون للناس شرعة ومنهاجًا، فكأنما قدر للإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة، إلا حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية". وهذا الرأي يفتقر الى الشمولية لاستبعاده العوامل البشرية التي لا علاقة للسماء بها.

فيما يتعلق بالعرب، جاء في لسان العرب وفق الاصطلاح اللغوي للحضارة" الحضر: خلاف البدو، والحاضر: خلاف البادي. وفي الحديث: لا يبيع حاضر لبادٍ، الحاضر: المقيم في المدن والقرى، والبادي المقيم بالبادية. والحِضارة بكسر الحاء: الإقامة في الحضر، عن أبي زيد" كان الأصمعي" يقول: الحضارة بالفتح". كما قال القطامي" فمن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال بادية ترانا".

لكن تعريف المسلمين للحضارة الاصطلاحي كان تعريفا شاملا جمع ما بين التيارين الأول والثاني، بل سبقهم بعدة قرون، فقد عرف ابن خلدون الحضارة في مقدمته الشهيرة بأنها " التفنن في الترف، واستجادة أحواله، والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه"، وأضاف نمط من الحياة المستقرة ينشئ القرى والأمصار، ويضفي على حياة الناس فنونا منتظمة من العيش والعمل والاجتماع والعلم والصناعة، وإدارة شؤون الحياة والحكم (القانون والسياسة)، وترتيب وسائل الراحة وأسباب الرفاهية".

من هذا التعريف الخلدوني الرائع نستخلص بأن أركان الحضارة حسب النظرة الإسلامية هي العامل الاجتماعي، العامل الاقتصادي، الفنون عامة، التطور العلمي، اسلوب إدارة الدولة (الحكم)، الرفاهية الاجتماعية وأخيرا العمران.

من الجدير بالإشارة ان النظرية الخلدونية استبعدت الجانب العسكري، ولم تعتبره من أركان الحضارة، وهذا ما أشرنا إليه في البداية. ويلخص د. أحمد شلبي الحضارة الإسلامية بأنها تعني " ما قدمه الإسلام للمجتمع الإنساني من أفكار ترفع شأنه، وتيسر أمور حياته، وقد قدم الإسلام مأثرة للبشر جمعا، وبعض هذه المآثر، يتضح مع غير المسلمين، اكثر مما يتضح مع المسلمين". (موسوعة الحضارات الإسلامية).

  1. مناطق نفوذ الحضارات

يعتبر(صامويل هنتنجتون) من أبرز المهتمين بدراسة الحضارات بعد العالم الموسوعي (ول ديوارنت)، وقد قسم الحضارات البشرية الى تسعة أقسام وفق مناطق النفوذ الثقافي:

أ. الحضارة الغربية بأرضيتها المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية. ومصدرها الإغريق والرومان والفكر المسيحي، وتشمل أوربا وامريكا واستراليا.

ب. حضارة أمريكا اللاتينية. ومصدرها الرومان والمسيحية علاوة على التأثيرات الاستعمارية من قبل اسبانيا والبرتغال.

ج. الحضارة اليابانية، وهي جزء من حضارة الشرق الأقصى. وهي في الحقيقة ترتبط بالحضارة الصينية.

د. الحضارة الصينية. وهي من الحضارات القديمة، أصولها الديانة الكونفوشيوسية.

هـ. الحضارة الهندية. واصولها هندوسية، وهي من الحضارات القديمة، وتشمل الهند والنيبال.

و. الحضارة الإسلامية، وتربط بالدين الإسلامي، وحدودها الحضارة العربية والفارسية والتركية والماليزية.

ز. الحضارة المسيحية الأرثوذكسية، وهي الحضارة المسيحية الشرقية وتشمل روسيا والقوقاز واوكرانيا والبلقان واليونان وقبرص. (هنا إشكالية في التقسيم فالحضارة اليونانية لا علاقة لها بالروس، وهي حضارة غير مسيحية، وتعد من أقدم الحضارات، ولا نفهم ما القصد من حشرها في هذه الفقرة.

ح. الحضارة الأفريقية، وتمتد حدودها الى افريقيا وجنوب الصحراء.( من الغريب أن هنتنجتون ربط هذه الحضارة باستجابتها للاستعمار والإمبريالية، متجاهلا ان الحضارة المصرية من أقدم الحضارات في العالم مع حضارة وادي الرافدين).

ط. الحضارة البوذية. وتشمل الهند الصينية، وتراثها تعاليم بوذا ومذاهبها تيرافادا وهينايانا، وتشمل تايلند وكمبوديا ولاوس وبورما وسريلانكا ومنغوليا.

الحقيقة ان هذا التصنيف مع أهميته يضم نقاط ضعف كثيرة فهو يعتمد تارة العامل الديني، وتارة العامل الجغرافي، وتارة العامل الثقافي، وتارة عامل اللغة. لكن الذي يهمنا هو ما يتعلق بالحضارة الفارسية والتركية، وهما اللتان ربطهما بالحضارة الإسلامية، بمعنى ان الطابع الإسلامي هو القاسم المشترك بينها.

للمبحث تابع لطفا.

*******************************************

النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين

أصولها، أسبابها ونتائجها/3

  1. هل هناك حقا حضارة فارسية قبل الإسلام؟

العراق كما هو معروف هو مهد العلوم والمعارف والحضارات، بل العراق بلا جدال هو قبلة العالم الثقافية، وتأتيه طلبة العلم والمعرفة من شتى أنحاء العالم، لتنهل من المعارف التي تركها السلف. فهل ما كان في بلاد فارس من علوم ومعارف يوازيها؟ وهل كان طلاب العلم يرتادون بلاد فارس للدراسة؟

الجواب: كلا بالطبع!

إن بعض الحضارات التأريخية لا يعني إنها حضارات علوم وفنون وآداب ومعارف ونهضة علمية، فالحضارة الرومانية مثلا هي حضارة حربية وليست مدنية أساسها الحروب والاحتلال والتوسع. وهذا ما يقال أيضا عن الحضارة الفارسية التي سبقت الإسلام ويتشدق بها الفرس باطلا وزيفا، فلا توجد حضارة فارسية حقيقية في أي من العلوم والمعارف باستثناء الجانب الحربي والتوسع والاستيطان وبعض العمران وتنظيم الدواوين. وحتى العمران فهو محدد الأفق. لاحظ في العراق لا يوجد من معالم العمران الفارسي غير إيوان كسرى. في حين كان المعمار الكبير في العراق حيث الجنائن المعلقة ومعالم نينوى ومنارتها الحدباء وبابل وأور، ووصل العمران أعظمه في زمن الخلافة العباسية من خلال تخطيط مدن بغداد وسامراء وقصور الخلفاء المميزة، التي جسدها الشعراء في أشعارهم. قال علي بن الجهم في قصر الجعفري الذي بناه المتوكل ويقارنه بهندسة الروم والفرس:

وما زلت أسمع أنّ الملوك   تبني على قـدر أقدارها

وأعلم أنّ عــقول الرجال     يقضى عليهـــــا بآثارها

فلما رأينا الإمــــــــــــام       رأينا الخلافـــة في دارها

بدائع لـــــــم ترها فارس     ولا الروم في طول أعمارها

وللروم ما شيّد الأولون       وللفرس آثار أحرارهـــــا

وكنا نحسّ لــها نخـــــــوة     فطامنت نخوة جبّارها

وأنشأت تحتج للمسلمــــين   على ملحديها وكفّارها

صحون تسافر فيها العيون   إذا ما تجلّت لأبصارها

وقبة ملك كأنّ النجـــــــوم     تفضي إليها بأسرارهــا

تخرّ الوفــــــــود لها سجّدا   سجود النصارى لكبّارها

لها شرفات كأنّ الربيـــــع   كساها الرياض بأنوارها

وأروقة شطرها للرخــــام   وللتبر أكرم أشطارهــا

إذا رمقت تستبين العــيون   منها منابت أشفارهــــا

لو أنّ سليمان أدّت لــــــه     شياطينه بعض أخبارها

لأيقنّ أنّ بني هاشـــــــــم     يقدّمها فضل أخطارهــا

فلا زالت الأرض معمورة بعمرك تأخير أعمارها   (كتاب البلدان للهمداني/369).

كما قال الحسين بن الضحاك في سرمرى من شعر طويل:

سكنّ إلى خير مسكونة     تقسمها راغب من أمم

مباركة شاد بنيانها         بخير المواطن خير الأمم

كأنّ بها نشر كافوره       لبرد ثراها وطيب النسم

وقوله:

كلّ البلاد لسرّمرّى شاهــد     أنّ المصيف بها كفصل سواها

فيحاء طاب مقيلها ومبيتها     وغدوّها ورواحها وضحاها

حضارة الفرس الحقيقية ولدت عندما حلٌ الإسلام محل المجوسية، فنبغ الآلاف من العلماء والأدباء الفرس في شتى أنواع العلوم والمعارف، اي ان الفضل للإسلام وليس للمجوسية. وعندما يزعم البعض بأن الإسلام قضى على الحضارة الفارسية فذلك وهم يحاولون تحويله إلى حقيقة لغرض تشويه صورة الإسلام، وتحميله مسؤولية تدمير حضارتهم المزعومة، علاوة على سبغ السلبيات على الإسلام بدلا عن الإيجابيات التي تحققت لهم من خلال الفتح العظيم. لا يجوز لمسلم حقيقي أن يماش هذا الرأي الخاطئ والمجحف، انه نكران لجميل الإسلام على الفرس.

يحاول الفرس صقل وتلميع المجوسية باعتبارها حضارة زاهية دمرها الغزو الإسلامي. الحقيقة أن هذ المسألة تخص تشويه صورة الإسلام عموما، وتشويه صورة عمر الفاروق خصوصا. وهذا ما يتجلى في تراثهم الذي ينال من الفاروق، بل ان كتابهم المقدس (الشاهنامة) يكيل للعرب الشتائم وينعتهم باسوا النعوت كما سنوضح فيما بعد. وهذه الشاهنامة هي قرآن الفرس الحقيقي.

قال التوحيدي" للفرس السياسة والآداب والحدود والرسوم، وللرّوم العلم والحكمة، وللهند الفكر والرويّة والخفّة والسّحر والأناة، وللتّرك الشجاعة والإقدام، وللزّنج الصبر والكدّ والفرح، وللعرب النّجدة والقرى والوفاء والبلاء والجود والذّمام والخطابة والبيان". (الإمتاع والمؤانسة1/72).

وقال القاضي أبو حامد المرورّوذيّ" لو كانت الفضائل كلّها بعقدها وسمطها، ونظمها ونثرها، مجموعة للفرس، ومصبوبة على رؤوسهم، ومعلّقة بآذانهم، وطالعة من جباههم، لكان لا ينبغي أن يذكروا شأنها، وأن يخرسوا عن دقّها وجلّها، مع نيكهم الأمهات والأخوات والبنات فإن هذا شيء كريه بالطباع، وضعيف بالسّماع، ومردود عند كل ذي فطرة سليمة، ومستبشع في نفس كل من له جبلّة معتدلة". (الإمتاع والمؤانسة1/80). وهذا ما سنفصله لاحقا.

كما قال الجاحظ" زعم الفرس أنّ أوّل شيء يؤدّبونه به السجود للملك؛ قالوا : خرج كسرى أبرويز ذات يوم لبعض الأعياد، وقد صفّوا له ألف فيل، وقد أحدق به وبها ثلاثون ألف فارس، فلما بصرت به الفيلة سجدت له، فما رفعت رأسها حتى جذبت بالمحاجن وراطنها الفيّالون. وقد شهد ذلك المشهد جميع أصناف الدوابّ: الخيل فما دونها، وليس فيها شيء يفصل بين الملوك والرعيّة، فلما رأى ذلك كسرى قال: ليت أنّ الفيل كان فارسيّا ولم يكن هنديّا". (كتاب الحيوان7/123).

وأضاف الجاحظ" يزعم زرادشت، وهو مذهب المجوس، أنّ الفأرة من خلق الله، وأنّ السّنّور من خلق الشّيطان، وهو إبليس، وهو أهرمن. فإذا قيل له: كيف تقول ذلك والفأرة مفسدة، تجذب فتيلة المصباح فتحرق بذلك البيت والقبائل الكثيرة، والمدن العظام، والأرباض الواسعة، بما فيها من النّاس والحيوان والأموال، وتقرض دفاتر العلم، وكتب الله، ودقائق الحساب، والصّكاك، والشّروط؛ وتقرض الثّياب، وربّما طلبت القطن لتأكل بزره فتدع اللّحاف غربالا، وتقرض الجرب، وأوكية الأسقية والأزقاق والقرب فتخرج جميع ما فيها؛ وتقع في الآنية وفي البئر، فتموت فيه وتحوج النّاس إلى مؤن عظام؛ وربّما عضّت رجل النّائم، وربّما قتلت الإنسان بعضّتها. والفأر بخراسان ربّما قطعت أذن الرّجل. وجرذان أنطاكية تعجز عنها السّنانير، وقد جلا عنها قوم وكرهها آخرون لمكان جرذانها، وهي التي فجرت المسنّاة، حتى كان ذلك سبب الحسر بأرض سبأ؛ وهي المضروب بها المثل، وسيل العرم ممّا تؤرخ بزمانه العرب. والعرم: المسنّاة. وإنما كان جرذا. وتقتل النّخل والفسيل، وتخرّب الضّيعة، وتأتي على أزمّة الركاب والخطم، وغير ذلك من الأموال. والنّاس ربما اجتلبوا السّنانير ليدفعوا بها بوائق الفأر- فكيف صار خلق الضّارّ المفسد من الله، وخلق النّافع من الضّرر من خلق الشيطان؟! والسّنّور يعدى به على كلّ شيء خلقه الشّيطان من الحيّات، والعقارب، والجعلان، وبنات وردان، والفأرة لا نفع لها، ومؤنها عظيمة. قال: لأنّ السّنّور لو بال في البحر لقتل عشرة آلاف سمكة! فهل سمعت بحجّة قطّ، أو بحيلة، أو بأضحوكة، أو بكلام ظهر على تلقيح هرة، يبلغ مؤن هذا الاعتلال؟! فالحمد لله الذي كان هذا مقدار عقولهم واختيارهم". (كتاب الحيوان4/407). كما قال الجاحظ" أمّا الأكاسرة من الفرس فكانوا لا يعدّون النّاس إلّا عبيدا، وأنفسهم إلّا أربابا". (كتاب الحيوان6/353) وناقض قوله" ليس الذي كان فيه آل ساسان وأنوشروان وجميع ولد أزد شير بن بابك كان من الكبر في شيء. تلك سياسة للعوامّ، وتفخيم لأمر السّلطان، وتسديد للملك". (الرسائل الأدبية/140).

علق د. علي ابو ملحم على قول الجاحظ المتناقض مع آرائه السابقة بقوله" القول ان ملوك آل ساسان لم يعرفوا التعظيم، والكبر غير صحيح. لقد احاطوا ملكهم بالأبهة والاجلال واسرفوا في ذلك حتى اصبحوا مضرب الأمثال. ويبدو ان بعض النساخ الميالين للشعوبية حرفوا قول الجاحظ".

من جهة أخرى ذكر ابو الطيب الحسيني القنوجي وهو من بخارى" أما الفرس فكان شأن هذه العلوم العقلية عندهم عظيما ولقد يقال: إن هذه العلوم إنما وصلت إلى يونان منهم حين قتل إسكندر دارا وغلب على مملكته واستولى على كتبهم وعلومهم إلا أن المسلمين لما افتتحوا بلاد فارس وأصابوا من كتبهم كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب يستأذن في شأنها وتنقيلها للمسلمين. فكتب إليه عمر رضي الله عنه: أن اطرحوها في الماء فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله تعالى بأهدى منه وإن يكن ضلالا فقد كفانا الله تعالى فطرحوها في الماء أو في النار فذهبت علوم الفرس فيها". (أبجد العلوم1/379).

ثم نقض قوله، فقال" كانت الفرس نقلت في القديم شيئا من كتب المنطق والطب إلى اللغة الفارسية فنقل ذلك إلى العربي عبد الله بن المقفع وغيره وكان خالد بن يزيد بن معاوية يسمى: حكيم آل مروان فاضلا في نفسه له همة ومحبة للعلوم خطر بباله الصنعة فأحضر جماعة من الفلاسفة فأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اليوناني إلى العربي وهذا أول نقل كان في الإسلام". (أبجد العلوم1/380).

كما ذكر احمد زكي صفوت" قدم النعمان بن المنذر على كسرى وعنده وفود الروم والهند والصين؛ فذكروا من ملوكهم وبلادهم، فافتخر النعمان بالعرب، وفضلهم على جميع الأمم، لا يستثنى فارس ولا غيرها، فقال كسرى -وأخذته عزة الملك- يا نعمان، لقد فكرت في أمر العرب وغيرهم من الأمم، ونظرت في حالة من يقدم علي من وفود الأمم؛ فوجدت للروم حظًا في اجتماع ألفتها، وعظم سلطانها، وكثرة مدائنها، ووثيق بنيانها، وأن لها دينًا يبين حلالها وحرامها، ويرد سفهيها، يقيم جاهلها، ورأيت الهند نحوًا من ذلك في حكمتها وطبها، مع كثرة أنهار بلادها وثمارها، وعجيب صناعتها، وطيب أشجارها، ودقيق حسابها، وكثرة عددها، وكذلك الصين في اجتماعها، وكثرة صناعات أيديها، وفروسيتها وهمتها في آلة الحرب، وصناعة الحديد، وأن لها ملكًا يجمعها، والترك والخزر على ما بهم من سوء الحال في المعاش، وقلة الريف والثمار والحصون، وما هو رأس عمارة الدنيا من المساكن والملابس، لهم ملوك تضم قواصيهم، وتدبر أمرهم، ولم أر للعرب شيئًا من خصال الخير في أمر دين ولا دنيا، ولا حزم ولا قوة، ومع أن مما يدل على مهانتها وذلها، وصغر همتها محلتهم التي هم بها مع الوحوش النافرة، والطير الحائرة، يقتلون أولادهم من الفاقة، ويأكل بعضهم بعضًا من الحاجة، قد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها ومشاربها ولهوها ولذاتها؛ فأفضل طعام ظفر به ناعمهم لحوم الإبل، التي يعافها كثيرة من السباع، لثقلها، وسوء طعمها، وخوف دائها، وإن قرى أحدهم ضيفًا عدها مكرمة، وإن أطعم أكلة عدها غنيمة، تنطق بذلك أشعارهم، وتفتخر بذلك رجالهم، ما خلا هذه التنوخية التي أسس جدى اجتماعها، وشد مملكتها، ومنعها من عدوها؛ فجرى لها ذلك إلى يومنا هذا، وإن لها مع ذلك آثارًا ولبوسًا، وقرى وحصونًا، وأمورًا تشبه بعض أمور الناس -يعني اليمن- ثم لا أراكم تستكينون على ما بكم من الذلة والقلة والفاقة والبؤس حتى تفتخروا وتريدوا أن تنزلوا فوق مراتب الناس، قال النعمان: أصلح الله الملك. حق2 لأمة الملك منها أن يسمو فضلها، ويعظم خطبها، وتعلو درجتها؛ إلا أن عندي جوابًا في كل ما نطق به الملك، في غير رد عليه، ولا تكذيب له؛ فإن أمنني من غضبه نطقت به، قال كسرى: قل فأنت آمن. قال النعمان: أما أمتك أيها الملك؛ فليست تنازع في الفضل، لموضعها الذي هي به: من عقولها وأحلامها، وبسطه محلها، وبحبوحة عزها، وما أكرمها الله به من ولاية آبائك وولايتك. وأما الأمم التي ذكرت، فأي أمة تقرنها بالعرب إلا فضلتها. قال كسرى بماذا؟ قال النعمان: بعزها، ومنعتها، وحسن وجوهها، وبأسها، وسخائها، وحكمة ألسنتها، وشدة عقولها، وأنفتها، ووفائها. فأما عزها ومنعتها؛ فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوخوا البلاد، ووطدوا الملك وقادوا الجند، لم يطمع فيهم طامع، ولم ينلهم نائل، حصونهم ظهور خيلهم، ومهادهم الأرض، وسقوفهم السماء، وجنتهم السيوف، وعدتهم الصبر، إذ غيرها من الأمم إنما عزها من الحجارة والطين وجزائر البحور. وأما حسن وجوها وألوانها، فقد يعرف فضلهم في ذلك على غيرهم: من الهند المنحرفة، والصين المنحفة، والترك المشوهة، والروم المقشرة.

الفرس والأنساب

وأما أنسابها وأحسابها؛ فليست أمة من الأمم إلا وقد جهلت آباءها وأصولها وكثيرًا من أولها، حتى إن أحدهم ليسأل وراء أبيه دنيا؛ فلا ينسبه ولا يعرفه، وليس أحد من العرب إلا يسمي آباءه أبًا فأبًا، حاطوا بذلك أحسابهم، وحفظوا به أنسابهم، فلا يدخل رجل في غير قومه، ولا ينتسب إلى غير نسبه، ولا يدعى إلى غير أبيه. وأما سخاؤها؛ فإن أدناهم رجلًا، الذي تكون عنده البكرة والناب، عليها بالغه في حمولة وشبعه وريه، فيطرقه الطارق، الذي يكتفي بالفلذة، ويحتري بالشبة؛ فيعقرها له، ويرضى أن يخرج عن دنياه كلها فيما يكسبه حسن الأحدوثة وطيب الذكر. وأما حكمة ألسنتهم؛ فإن الله تعالى أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم، وحسنه ووزنه وقوافيه، ومع معرفتهم الأشياء، وضربهم للأمثال، وإبلاغهم في الصفات، ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس ثم خيلهم أفضل الخيل، ونساؤهم أعف النساء، ولباسهم أفضل اللباس، ومعادنهم الذهب والفضة، وحجارة جبالهم الجزع. ومطاياهم التي لا يبلغ على مثلها سفر، ولا يقطع بمثلها بلد فقر. وأما دينها وشريعتها؛ فإنهم متمسكون به، حتى يبلغ أحدهم من نسكه بدينه أن لهم أشهرًا حرمًا، وبلدًا محرمًا، وبيتًا محجوجًا، ينسكون فيه مناسكهم، ويذبحون فيه ذبائحهم، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه، وهو قادر على أخذ ثأره، وإدراك رغمه منه؛ فيحجزه كرمه، ويمنعه دينه عن تناوله بأذى وأما وفاؤها، فإن أحدهم يلحظ اللحظة، ويومئ الإيماءة، فهي ولث وعقدة، لا يحلها إلا خروج نفسه، وإن أحدهم يرفع عودًا من الأرض فيكون رهنًا بدينه، فلا يغلق رهنه، ولا تخفر3 ذمته، وإن أحدهم ليبلغه أن رجلًا استجار به وعسى أن يكون نائيا عن داره. فيصاب، فلا يرضى حتى يفنى تلك القبيلة التي أصابته، أو تفنى قبيلته، لما أخفر من جواره، وإنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث، من غير معرفة ولا قرابة، فتكون أنفسهم دون نفسه، وأموالهم دون ماله. وأما قولك أيها الملك يئدون أولادهم، فإنما يفعله من يفعله منهم بالإناث أنفة من العار، وغيرة من الأزواج. وأما قولك إن أفضل طعامهم لحوم الإبل على ما وصفت منها، فما تركوا ما دونها إلا احتقارًا لها، فعمدوا إلى أجلها وأفضلها، فكانت مراكبهم وطعامهم، مع أنها أكثر البهائم شحومًا، وأطيبها لحومًا، وأرقها ألبانًا، وأقلها غائلة4، وأحلاها مضغة، وإنه لا شيء من اللحمان يعالج ما يعالج به لحمها إلا استبان فضلها عليه. وأما تحاربهم وأكل بعضهم بعضًا، وتركهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعهم، فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم إذا أنست من نفسها ضعفًا، وتخوفت نهوض عدوها إليها بالزحف، وإنه إنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد، يعرف فضلهم على سائر غيرهم، فيلقون إليهم أمورهم، وينقادون لهم بأزمتهم، وأما العرب فإن ذلك كثير فيهم، حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكًا أجمعين، مع أنفتهم من أداء الخراج والوطث بالعسف.

وأما اليمن التي وصفها الملك؛ فإنما أتى جد الملك إليها الذي أتاه، عند غلبة الحبش له، على ملك متسق، وأمر مجتمع؛ فأتاه مسلوبًا طريدًا مستصرخًا، ولولا ما وتر به من يليه من العرب؛ لمال إلى مجال، ولوجد من يجيد الطعان، ويغضب للأحرار من غلبة العبيد الأشرار". فعجب كسرى لما أجابه النعمان به، وقال: إنك لأهل لموضعك من الرياسة في أهل إقليمك، ثم كساه من كسوته، وسرحه إلى موضعه من الحيرة" . (جمهرة خطب العرب1/53).

لماذا يدعي الكثير بأنهم من العرب؟

الحقيقة ان الكثير من القوميات كانت تتسمى بالعرب بسبب علو منزلتهم مقارنة ببقية القوميات، ذكر النهشلي القيرواني" الترك يدعون أنهم من اليمن، ويزعمون أن تبع الأكبر لما ارتحل عن غسان أنزل بها خلقاً عظيما من أهل اليمن، فافترقوا في البلاد، وصار بعضهم إلى أن نزل آستانة. والأكراد يزعمون أنهم من قيس بن هوزان، والأدرية يزعمون أنهم من العرب. وكان بابك يدعى أنه من خزاعة. تدعى أنهم من بني أمية، وأنه لما ظهرت دولة بني العباس هرب قوم من أمية فتزوجوا فيهم، وولدوا لهم الأولاد، على أنهم على دين اليهود". (الممتع في صنعة الشعر/345).

هل أصل الاكراد عرب؟

قال المازني الحموي" أنكر جماعة من ملوك بنى أيوب النسبة إلى الأكراد، وقالوا: إنما نحن عرب، نزلنا عند الأكراد وتزوجنا منهم. وادعى بعضهم النسب إلى بنى أمية". (مفرج الكروب في أخبار بني أيوب1/3). وقال ابو الفداء" الكرد من الفرس، ومنازلهم جبال شهرزور، وقيل: إِن الكرد من العرب، ثم تنبطوا. وقيل: إِنهم أعراب العجم". (المختصر في أخبار البشر1/83)

وذكر نشوان الحميري" كُرْد : جيلٌ من الناس، يقال إِنهم من الأزد ، قال الشاعر:

لعمرك ما كُرْدٌ من ابناء فارسٍ   ولكنه كرد بن عمرو بن عامر

وقال آخر:

لعمرك ما كرد بن عمرو بن عامر      ولكن خالط العُجْمَ فاعتجم

وقج نَسَبَتْهم الشعراءُ إِلى اليمن، ثم إِلى الأزد. وقيل: إِن الكُرْد : اسم عربي مشتق من المكاردة ، وهي المطاردة". (شمس العلوم9/96). (الجمهرة2/638).

من حمق الفرس

قال البيهقي" حكي عن أبي عباد الكاتب أنه قال: كنت يوماً عند المأمون فدعا بالغداء وكان يستنزل من قام من مجلسه عند ذكر الطعام ويقول: هذا من أخلاق اللئام، فقدّموا إليه بطيخاً على أطباق جدد فجعل يقوّر بيده ويذوق البطيخة فإذا حمد حلاوتها قال: ادفع هذه بسكينتها إلى فلان. فقال لي وقد دفع إلي بطيخة كانت أحلى من الشهد المذاب: يا أبا عباد بم تستدل على حمق الرجل؟

قلت: يا أمير المؤمنين أما عند الله فعلامات كثيرة وأما عندي فإذا رأيت الرجل يحب الشاهلوج ويبغض البطيخ علمت أنه أحمق.

قال: وهل تعرف صاحب هذه الصفة؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين الرستمي أحد من هذه صفته.

قال: فدخل الرستمي على أمير المؤمنين، فقال له المأمون: ما تقول في البطيخ الرمشيّ؟

قال: يا أمير المؤمنين يفسد المعدة ويلطخها ويُرقّها، يرخي العصب ويرفع البخار إلى الرأس.

قال: لم أسألك عن فعله إنما سألتك أشهي هو؟ قال: لا. قال: فما تقول في الشاهلوج؟ قال: سماه كسرى سيد أجناسه. قال: فالتفت المأمون إليّ وقال: الرجل الذي كنا في حديثه أمس من تلامذة كسرى في الحمق". (المحاسن والمساوىء/252).

وسوم: العدد 1062