عندما يبتذل المفهوم العلمي للدراسة خدمة للإيديولوجيا

يرتبط مفهوم البحث أو الدراسة من حيث حمولته العلمية في أذهان الناس بصفة عامة بالصرامة والدقة في الإنجاز، وبالمصداقية في النتائج المتوصل إليها، وهو ما يستلزم بالضرورة توفر الأشخاص أو الهيئات التي تُسند لها مهمة القيام بها على مؤهلات علمية متميزة، بالإضافة إلى التزامات أخلاقية تمنعهم من الزيغ بهذه الدراسة أو تلك إلى خدمة أهداف إيديولوجية أو سياسية محضة، انطلاقا من شرط حياد المنهج العلمي.

من هذا المنطلق يتم اللجوء إلى إجراء الدراسات للإحاطة بحيثيات مجموعة من المشاكل التي تعاني منها المجتمعات على سبيل المثال، بهدف إيجاد الحلول المناسبة لها. غير أنه لوحظ في السنوات الأخيرة ابتذال رهيب لهذا المفهوم، مقارنة باستغلاله في السابق من قِبل بعض الشركات للترويج لمنتوجاتها، على الرغم من ضررها الواضح على صحة المواطن، كما كان الشأن بالنسبة لشركات التبغ أواسط القرن العشرين، (أنظر مقالا لي نشر بموقع وجدة سيتي تحت عنوان "العلم والجهل أية علاقة؟")، بحيث أصبح يستعمله كل من هب ودب لتمرير مغالطات بخصوص مواضيع حساسة، تهم مستقبل الشعوب والمجتمعات، إنْ على المستوى العالمي أو على المستوى المحلي، مع الإشارة إلى أن هذا الاستغلال قد طال مفهومي التقرير واستطلاع الرأي بحيث تُعطى لهما نفس الحمولة المفترضة في الدراسة (انظر مقالي المنشور بموقع وجدة سيتي تحت عنوان: "عندما تصبح استطلاعات الرأي والتقارير أدوات "لاغتصاب الجماهير")، ويكفي تصفح عدد من المواقع على غوغل للتعرف بِيُسر على أمثلة كثيرة للاستغلال السيء لهذا المفهوم الذي يُفترض أن تتسم نتائجه بما يكفي من المصداقية ليتم الاحتكام إليها للحسم في طبيعة المشاكل الحقيقية وفي إيجاد الحلول الأكثر ملاءمة.

الدافع وراء هذا المقال هو مقال نُشر على موقع هسبريس بتاريخ 10 فبراير 2024 تحت عنوان: "دراسة: "حرف تيفيناغ" لا يشكل أي عائق أمام تعلم التلاميذ اللغة الأمازيغية" بحيث ورد فيه بالحرف: "وأكدت نتائج الدراسة التي قدمها مصطفى الصغير، باحث بمركز البحث الديداكتيكي والبرامج البيداغوجية بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، أن تعلم القراءة والكتابة في اللغة الأمازيغية بتوظيف حرف تيفيناغ،" لا يشكل أية صعوبات بيداغوجية، خاصة بالنسبة للمتعلمين بمستوى السنة الثانية من التعليم الابتدائي"". مع العلم أنه تمت الإشارة إلى أن عينة الدراسة تتكون من 1100 تلميذ وتلميذة.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو ما مدى مصداقية مثل هذه "الدراسات"؟ خاصة إذا علمنا أن المقال أورد على لسان صاحب الدراسة أن "الحجج التي عضد بها أصحاب مطلب اعتماد الحرف العربي لكتابة الأمازيغية -أثناء السجال الذي وقع بين مؤيدي استعمال الحرف العربي وبين مؤيدي استعمال الحرف اللاتيني-موقفهم، كانت ذا طابع سياسي وإيديولوجي، وليست علمية". ذلك أن المطلوب في الدراسات العلمية هو الاهتمام بالحقائق العلمية، وليس بموقف الأخرين، حتى وإن صح ذلك على سبيل الافتراض، ومن ثم يلاحظ أن الهدف الأساسي لهذه "الدراسة" لا يعدو أن يكون هو كذلك إيديولوجيا محضا، وما يؤكد هذا قول صاحب الدراسة بأن حرف تيفيناغ "ليس فقط شفرة تقنية ملائمة لكتابة اللغة الأمازيغية، كما تأكد من خلال الدراسة، بل حاملا لبعد هوياتي ولتاريخ وثقافة الأمازيغية". أليس هذا كافيا للتدليل على البعد الأيديولوجي في "الدراسة"، فكيف يمكن الوثوق في "دراسة" يصف صاحبها حجج الداعين لاعتماد الحرف العربي بأنها ذات طابع سياسي وإيديولوجي، في الوقت الذي يفصح فيه عن انحيازه لحرف تيفيناغ لكونه ذو بع هوياتي؟

سؤال منهجي آخر هو ما مدى انسجام نتائج هذه الدراسة فيما بينها؟ بحيث ورد من جهة أن" كل مكونات مهارة القراءة متحكم فيها" لدى التلاميذ الذين شملتهم الدراسة، أي أن الأمر يتعلق ب 1100 تلميذ وتلميذة الذين شملتهم "الدراسة" التي اقتصرت على مستوى الثانية ابتدائي، ومن جهة ثانية جاء في المقال على أن الدراسة خلصت إلى أن "حرف تيفيناغ لا يطرح إشكالا بالنسبة للتلاميذ للقراءة" وهو ما يفهم منه إمكانية تعميم هذه النتيجة على المستوى الوطني؟

إذا سلمنا جدلا بصحة هذه النتائج، وجب علينا ملاءمتها مع نتائج "الدراسات" الرسمية كما جاءت على لسان وزير التربية الوطنية، عندما صرح بأن 77 في المائة من المتمدرسين في التعليم الابتدائي لا يجيدون قراءة نص باللغة العربية مكون من 80 كلمة، وأن 70 في المائة لا يستطيعون قراءة نص باللغة الفرنسية مكون من 15 كلمة، وأن 87 في المائة من تلاميذ المستوى الخامس ابتدائي لا يستطيعون إنجاز عملية قسمة بسيطة، مع رصده لنسبة هدر مدرسي في صفوف تلاميذ التعليم الأولي تصل إلى 23 في المائة، مع العلم أنه قد سبق له أن صرح بأنه لا يوجد نظام تعليمي يتعلم فيه الأطفال اللغات بثلاثة حروف مختلفة". فكيف لتلاميذ بهذه المواصفات ألا تكون لهم مشاكل في استعمال حرف تيفيناغ وهو الذي لا صلة لهم به في حياتهم اليومية على غرار العربية والفرنسية؟

ختاما يجدر بالمتعصبين للأمازيغية ولحرف تيفيناغ، إن كانت لديهم ذرة حب لهذا الوطن العزيز أن يعلموا أن الأولويات في التعليم ينبغي أن تنصب على إكساب التلاميذ الكفايات الأساسية، من حساب وقراءة وكتابة باللغة العربية، لكونها اللغة الرسمية الأولى، ثم العمل على التخلص من اللغة الفرنسية باعتبارها لغة المستعمر من جهة، ومتجاوزة من جهة ثانية، قبل الشروع في فتح هذا الباب الذي لن يزيد الأمر إلا تعقيدا في وقت يعاني فيه تعليمنا من مشاكل عويصة يتصدرها مشكل رجال ونساء التعليم، الذي له ارتباط وثيق بتحسين مردودية العملية التعليمية التعلمية، دون ذكر العملية التربوية التي تم تهميشها حتى أصبحنا نعاين لدى شبابنا مجموعة من الممارسات التي لا تمت لثوابتنا وثقافتنا بصلة. و لكوني أمازيغي أبا وأما عن جد، فإني لا أقبل بأن يزايد علي أحد في انتمائي اللغوي، كما لا أقبل باحتكار تلك الفئة القليلة لملف الأمازيغية مع كل الشبهات التي تحوم حولها، خاصة وأني كلما صادفت مقالا أو "دراسة" أو "استطلاع رأي" أو "تقرير" في هذا الشأن إلا وشممت منه رائحة العداوة لكل ما له صلة باللغة العربية، التي لا ترتبط بالعرب كجنس، بقدر ما ترتبط بالدين الإسلامي الذي لا يمكن ممارسته على الوجه المطلوب بدون الإلمام بها، ناهيك على أن هذا النوع من "الدراسات" يساهم بقدر كبير في تعميق الخلافات بين العرب والأمازيغ التي لن تزيد المغرب والمغاربة إلا تخلفا، من خلال إضاعة مجهوداتهم في مشاكل وهمية، عوض توحيدها وبذلها في الاتجاه الصحيح الذي ينأى عن النفخ في مثل هذه الشكليات والخوض فيها. وصدق الله العظيم إذ يقول﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.  

وسوم: العدد 1069