المطبلون والمطبعون المطيعون

في خضم كل صراعاتنا التي شهدها تاريخنا المعاصر والناجمة عن قضايانا الوطنية والقومية مع أعداء شعبنا العربي، كان المثقفون في أتون هذه الصراعات جنبا إلى جنب الجماهير المظلومة بكل فئاتها الاجتماعية والسياسية في ما تخوضه من نضال ضد قوى الظلم والعسف والاضطهاد دفاعا عن قضاياها ومن أجل أهدافها القريبة والبعيدة.

وليس مثل الشعب الفلسطيني شعب ظُلم من لدن احتلال استضعفه وهضم حقوقه واستلب إراداته. ولقد كان المثقفون العرب فاعلين بحيوية وقوة مع قضايا الجماهير العربية في معاركها ضد المحتلين والغزاة وبكل ما امتلكوا من أدوات وبخاصة أداتهم الإبداعية، كما وقفوا مع نضال الشعوب الأخرى كالشعب الفيتنامي ضد العدوان الأمريكي والصيني ضد الاستعمار الياباني ونضال الشعب السوفيتي ضد الاحتلال النازي في الحرب العالمية الثانية وغيرها.
وسار مثقفو القرن العشرين على نهج الرعيل الأول من مبدعي القرن التاسع عشر ومثقفيه وكانت لهم مواقف مشرفة في دعم نضال شعبنا العربي ضد المستعمرين والغزاة. وظلت قضية فلسطين هي القضية التي بها التصق المثقفون والمبدعون العرب التصاقا مصيريا كقضية عضوية ومحورية فصراع العرب مع الصهاينة ليس صراع حدود، بل هو صراع وجود ماضيا وحاضرا ومستقبلا.
ولقد خالف بعض مثقفي القرن المنصرم هذا النهج فلم تعد القضية الفلسطينية – وهي الأطول امتدادا في الزمن- مركزية ومصيرية بالنسبة إليهم، بل حلت القضايا القطرية محلها. وعلى الرغم من أن الخنجر المسموم الذي غرسته الصهيونية وحليفتها الإمبريالية العالمية في قلب الأمة العربية ما يزال مغروسا وجرحه عميقا نازفا، لم يتضمد عبر كل العقود الماضية، فإن الغالب على هؤلاء المثقفين أنهم غير مستوعبين ما يتوجب عليهم القيام به من فاعلية ودور محوري في صنع الرأي العام العربي. يدل على ذلك ما نشهده من خمول وفتور همة، الأمر الذي أفقدهم صفتهم التنويرية.
ولقد سمى غرامشي هذا النفر من المثقفين بالمنسقين، يرتبطون مباشرة بالمشاريع التي تستخدم في تنظيم مصالحهم واكتساب المزيد من السلطة والهيمنة على عكس المثقفين الذين يستمرون في وظيفتهم التنويرية جيلا بعد جيل. وخطورة اتساع نطاق المثقف المنسق هي في كونه ينظر إلى الوطنية والنضال والاستقلال والثبات على المبادئ وغيرها من القيم التي يفخر العربي بالموت من أجلها على أنها ظواهر نفسية انفعالية وحالات رومانسية طفولية.
وعلى الرغم من أن نزيف فلسطين ما يزال مستمرا، والضمير الإنساني لا ينفك يتألم من أجل فلسطين، فإننا نجد هذا المثقف المنسق يتنازل عن فكره، صاغرا للأعداء الماكرين صانعي مؤامرة اغتصاب أرض فلسطين العربية، متفننا في اجتراح السبل وتوجيه الوسائل، متفانيا من أجل خلق الظروف وصناعة الكيفيات التي بها يوجه الأنظار بعيدا عن هذه المؤامرة.
ولم يكن لهذا الحال أن يكون بشكل عفوي بل هو مخطط له، إذ لم يغب عن أعدائنا هذا الاتحاد العضوي بين وعي المثقف العربي ووعيه بعدالة قضية فلسطين لذلك وضعوه نصب أعينهم فكان في مقدمة أهدافهم نسف العرى القوية بين المثقف والقضية المركزية (فلسطين). فشرعوا في وضع المخططات وتهيئة البيئات الملائمة لتحقيق ذلك كله، وكان أول المتحقق هو التطبيع بإجراءاته التركيعية، تارة بتوجيه المثقف المنسق نحو تسويغ ما تقوم به بعض الأنظمة أو ما ترغب فيه من إقامة علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية مع الكيان الغاصب لفلسطين وتارة بفبركة المشاريع السلمية (الاستسلامية) وتزيينها وتسويفها كمشروع ابراهام باتجاه خلق أجواء تنتعش في هوائها الفاسد مصالح من يريد حماية العروش والقروش. وهذه الأخيرة كانت أداة لشراء المثقفين المنسقين الذين امتلأت كروشهم فارتفعت عقيراتهم بالزعيق والنهيق لتنال من وثبة الأقصى الأبية وتبرر خذلان أصحاب العروش المطبعة لها.

إسداء النصائح المنقوعة بالخداع

ويا للأسف على كتّاب كنا بالأمس نقرأ لهم ما يعزز القوى ويقوي العرى لكنهم اليوم مصدر تعتيم وتجهيل بما أخذوا ينشرونه من مدح لمواقف التخاذل وتبرير للخذلان وكيل نعوت العظمة والفذوذية لهم، حتى إن أحدهم وكنا نتوسم فيه طيلة عقود بأنه (قومي) قح أو يساري صح، وإذ به يمارس تنسيقيته فيسوغ الخذلان بأنه عقلانية وتفكير بالحسابات الدقيقة والامكانيات المتيسرة، وينصح مقاتلي حماس أن يدخروا قواهم مع أنظمة لها وزارات ومؤسسات وقادة هم أعرف ببواطن الأمور. وهنا سؤال ملح يفرض نفسه هو: هل تدخر هذه الأنظمة قواها لأعداء الأمة أم لقمع شعوبها أم لاستغلالها في إثارة بؤر الفتنة في أصقاع أخرى من الوطن العربي أم لتكون عونا للامبريالية في أطماعها في المنطقة وسلب إرادات شعوبها وثرواتها؟
ويمعن هذا القومي القح واليساري الصح بإسداء النصائح المنقوعة بالخداع والتضليل فيصف طوفان الاقصى بالمغامرة غير محسوبة النتائج ويشير إلى حجم التضحيات لا أسفا، بل استنكارا. ومن المؤكد أنه يعمي بصره ويبلد وعيه كي يتصنع ذلك التضليل لحقيقة أن الشعوب المهضومة ما استردت كرامتها إلا بالتضحيات الجسام كما لم تنل حقوقها من غاصبيها إلا بالإصرار والإقدام على خوض أشرس المعارك، ودونك شعب فيتنام وما فعله بالأمريكان، والروس وصمودهم أمام النازيين وكذلك شعب الصين ودحره اليابانيين الذين أبادوا عشرات الملايين وهدموا عشرات المدن، بيد أن الغاصبين خرجوا مهزومين وانتصرت تلك الشعوب انتصارا تاريخيا لا كمسألة آنية بل هي حاضرة في تواريخها على مدى الأزمان. ولماذا نذهب بعيدا، أليس من شعبنا أحرار الجزائر الذين قدموا مليون شهيد لدحر الاستعمار الفرنسي ونيل استقلال الجزائر؟ فبم يحاججون؟ ومن يتصورون أنهم يضللون؟ إذن فلتبقوا مع المطبعين مطيعين خائرين كجزء من ماكنة العدوان الصهيونية الامبريالية بدل أن تجسدوا مطالب الجماهير وتضعوها أمام أصحاب القرار العربي باستنفار الممكنات العربية لإيقاف جرائم الصهيونية إزاء عشرات آلاف من المدنيين وجلهم من الأطفال والنساء والشيوخ وأن يفضحوا موقف التخاذل والرضوخ أمام الكيان الغاصب كي ينتقلوا إلى الفعل المواجه في الأقل باستخدام وسائل الضغط المتوفرة لدينا وأولها إلغاء التطبيع مع هذا الكيان من لدن الدول التي لها علاقات به، ودعوة مجلس الدفاع العربي المشترك للانعقاد وتطبيق اتفاقية الدفاع، وغلق الممرات المائية والموانئ الإقليمية أمام سفن العدوان ومناصريه كما فعلها الحوثيون، وإنذار العدو أمدا محددا، ينهي فيه عدوانه على غزة وكذلك التهديد بقطع امدادات الطاقة والموارد الأخرى عن الدول الإمبريالية المساعدة للكيان الغاصب وفي مقدمتها أمريكا التي تعرقل اتخاذ أي قرار بإيقاف إطلاق النار مما يعني منح الصهاينة المجرمين الضوء الأخضر لممارسة الإبادة الجماعية على الشعب الأعزل مغموط الحقوق.
وليس أدل على المشاركة الفعلية لأمريكا في المجهود الحربي الصهيوني مما صرح به الطيار الأمريكي الذي انتحر بحرق نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن احتجاجا على مشاركة دولته في إبادة المدنيين العزل. وهذا غيض من فيض من سجل الإمبريالية الغاشمة في دعم ربيبتها الصهيونية؛ فماذا يقول الطبالون؟ وبأي وجه يبررون هذا الصمت بل التخاذل والخذلان والخزي الذي يغلف دعاواهم بالواقعية والأفعال المحسوبة والعقلانية؟ بربكم هل استرد شعب بهذه الوسائل الناعمة حقوقه من غاصبيها؟ دلونا لنقتنع أيها المطبلون ويا أيها المطبعون المطيعون.
أما محاججتكم بفداحة الخسائر وعظيم التضحيات فتعلمون ويعلم الجميع أن مدنا كبرى شرقية وغربية قد دُمرت من قبل محتليها ولكنها قامت كما لو أن التدمير لم يحصل، وتلاشى غزاتها وغاصبوها فلم تمت (روما ونيرون مات) وتعودت البشرية على كوارث مدنها وفقدان عشرات آلاف من سكانها بالظواهر الطبيعية المختلفة كالزلازل والأعاصير والفيضانات، فبالأمس القريب فقدنا مدينة عربية ليبية هي درنة. ولا يمكن لهذه الخسائر المادية أن تثني المظلومين عن نيل حقوقهم بالوقوف في وجه الظالمين الغزاة.

وسوم: العدد 1073