التحديات الإقليمية للعبة التفتيت وتغييب مكامن القوة

يتحدثون عن حقوق الإنسان والمجتمع الديمقراطي، وهم يرعون استعمارا مباشرا، واستيطانا صهيونيا ينهش فلسطين، ويرتكب المجازر من دون محاسبة، أو مجرد دعوة جدية لوقف الجرائم المتواصلة، وسياسة التجويع في حق شعب أعزل يدافع عن أرضه المغتصبة ويرغب في أن يعيش بسلام.

سبق أن طالبت إسرائيل بإدانة الفعل الإيراني، وتُطالب أيضا بإدانة الحوثيين الذين يناصرون غزة المحاصرة، التي يُباد أهلها ويتم تجويعهم، وهي في كل ذلك تتناسى إجرامها المتواصل ومبادرتها الدائمة إلى العدوان، والمفارقة أنها تبحث عن قانون دولي لم تعترف به يوما، أو تلتزم بمواثيقه ومعاهداته. وهذا طبيعي، عندما نجد ظهيرها أمريكا، قد تنكّرت بدورها لمعظم قرارات الأمم المتحدة المؤيدة للحقوق الفلسطينية، ليس في هذه الحرب الدائرة اليوم فحسب، التي كشفت لا أخلاقية سياسية ودبلوماسية لا نظير لها، بل على الدوام، وفّرت أمريكا لإسرائيل الحماية لأجل التنصل من تنفيذ هذه القرارات أو الالتزام بها. وهي تُسارع دائما إلى توفير الغطاء السياسي اللازم لكيانها الوظيفي في المنطقة.

أما التهديدات الأمريكية الإسرائيلية لطهران فليست جديدة، وتصعيد لهجة الحرب يرافقه ارتفاع رهان الكسب، ومطالب تحقيق أقصى المنافع، على نحو الانطباع الخادع، الذي توفّره الولايات المتحدة لحلفائها العرب في المنطقة، مع ما يرافقه من قلب الوقائع، وجعل العدو حليفا، وصناعة عدو آخر للإعماء والطمس، وإدارة المنطقة، وجعل إسرائيل هي المتحكمة في مصير الشرق الأوسط.

يتم قصف الجميع، أطفالا ونساء وشيوخا، دون شفقة أو رحمة، أما المراسلون الذين ينقلون الحدث، فيتم اغتيالهم بدم بارد، ولا يطارد القاتل أو تتم محاسبته بشكل جدّي في ما يسمى المحاكم الدولية، التي تتقاسم ازدواجية المعايير مع صنّاع السياسة والمتحكّمين بالسياق العالمي منذ عقود. لقد استُهلكت كل الأطر التي ادعوا أنها تنظم ما يسمّى النظام الدولي، وهُشمت معظم ثوابت المشترك الإنساني، وعملوا بشكل تدريجي على تدميرها، وحاولوا رسم قواعد تواصلية مغايرة، وتصدير خيرية إنسانية كاذبة، خدعوا بها الشعوب. ورأينا كيف يدعم الغرب بأكمله إسرائيل، رغم كل الجرائم ضد الإنسانية والمحرقة الحقيقية التي ترتكبها، أصيبوا بالعمى أمام أفعال هذا الكيان، مثلما أنّ الإصابة بالجنون والإتيان على الأخضر واليابس، باتت أسلوبا متّبعا لدى قادة كيان الاحتلال، لإنزال أشدّ الألم بالمدنيين، على أساس أنّ لحماس مظهرين، الجناح العسكري المقاوم والجناح الاجتماعي، وبالتالي يبررون بذلك قتل الجميع دون تمييز. هذا السلوك الفاشي يلخص نوازع الإبادة في العقل والممارسة الصهيونيين، التي باتت واضحة للعالم، وباسم مصلحة الكيان الصهيونيّ «المهدّد وجوديا» حسب أقوال قادته. لا يبرّر جرائمه ومحارقه في غزة، بل يعتبر بعضهم قتل المدنيين وإبادتهم بعشرات الآلاف «دوغما صهيونية» مدعّمة بالفتاوى الحاخامية، وبالنزعات الجنونية. وما زالت الصهيونية الدينية تدفع نحو محو فلسطين تماما، وفرض وجود إحلالي بالقوة.

أمام كل ما يجري في المنطقة من أعمال عدائية وفوضى استراتيجية، تتمّ على حساب مصائر الدول وحقوق الشعوب: هل ننتظر من الحكام العرب مثلا أن يحققوا رابطا قوميا عربيا جامعا ووحدويا بشكل ما؟ هل هم بصدد الدفاع المستميت عن فلسطين؟ لا شيء من هذا أو ذاك. لأنهم بكل بساطة لا يملكون أي مشروع، وليست لديهم تصورات استراتيجية، أدوارهم ضعيفة وهامشية تدور في فلك أقطاب إقليمية ثلاثة هي تركيا وإيران وإسرائيل، ناهيك من التبعية التامة لأجندات القوى الكبرى وصراعها على الهيمنة والتنافس، التي تتم جميعها على حساب شعوب المنطقة واستقلاليتها. أما وصفات المقايضة التي انتهت إلى التطبيع والأسرلة، فهي أكبر دليل على تداعيات أخرى لفكر مهزوم استغلّه ترامب ونتنياهو كما يحبذان. أنظمة كرّست ثقافة الهزيمة والخذلان بشكل لا جدال فيه، وسياسات التحالف الجديدة مع إسرائيل، تتوجّه نحو استمالة القوى المسيطرة على السلطة والثروة داخل رابطة الدول الإقليمية، وهي تقود بشكل مبتذل وانهزامي توجهات النظام الرسمي العربي. يفتحون الباب لأمريكا عبر إدارتها لثرواتهم لإحكام قبضتها على المنطقة، من بوّابة المصالح الاستراتيجية، ولن يكون التعاون التامّ مع تلّ أبيب مستغربا، أو بعيد المنال، حتى بعد كل ما حدث ضد الفلسطينيين، ورغم تجاوزات إسرائيل المتكررة تجاه لبنان وسوريا، مثل هذا الجمود العربي الاختياري الذي يثير ريبة الشعوب، ويشعرها بالخيبة، لم يُدرك بعد أنّ المعسكر الإسرائيلي الأمريكي يلفظ مساعي السلام والتّسوية، المصطلحات نفسها التي تتكرر بلغة تنديد مستهلكة، تؤكّد فقدان جميع الإرادات، ما بالك بمواصلة التمسّك بمبادرة السّلام العربية التي تتجاهلها إسرائيل تماما، وتتمادى في الاستيطان والقتل والتدمير، وضمّ الأراضي العربية. وتفعل ما تريد في الدول المجاورة، من لبنان إلى سوريا مؤخرا، من بوابة حماية الأقليات في انتهاك صارخ للسيادة والحدود.

في المحصلة، الأنظمة الرأسمالية مستعدة للتضحية بالفئات الهشة والضعيفة، ونراها كيف تتنكّر لكل مواثيقها التي وضعتها إثر الحرب العالمية الثانية. ولا تفعل شيئا أمام حرب القتل والتجويع التي يمارسها كيان الاحتلال ضد المدينيين في غزة. الأسوأ في كل ذلك أنّ الروابط الإنسانية أهم ضحية من ضحايا الحداثة والنيوليبرالية. فأصحاب المصالح ودعاة الهيمنة والتنافس على النفوذ، لا يعنيهم أبدا تغيّر المشهد السياسي، أو الاقتصادي في المنطقة، على نحو ترسيخ العدالة الاجتماعية بديلا للطغيان السياسي والاحتلال والفوضى والتخلف البنيوي، الذي أضر بالدول والشعوب. السؤال الأبرز في كل ما يجري هو متى يدرك العرب أهمية موقعهم استراتيجيا وجيوسياسيا، ويحوّلون كل ذلك إلى مصدر قوة، بما يُقلّص انكشافهم داخليا وخارجيا، ويُصحّح الكثير من المسارات الخاطئة والقضايا المسلوبة، وفي مقدمتها الحق الفلسطيني وتوازن الأمة.

وسوم: العدد 1125