فلسفة التوحش.. هل تضمن لإسرائيل الانتصار؟

الطريقة المتوحشة التي تنفذ بها إسرائيل هجماتها غير المتناسبة ضد الشعوب العربية في فلسطين ولبنان وسوريا، بخلاف أنها تطبيق لرؤية عقائدية، هي أيضا تطبيق عملي لرؤية انتهازية قائلة بوجوب أن تعاقب خصمك بطريقة تجعلك في مأمن تام من خشية انتقامه، وأنه بقدر قوة الضربة التي توجهها له سيتغير ولاؤه لصالحك حتى يصير ميتا أو تابعا مخلصا لك.

قد تكون هذه الرؤية الميكافيلية صحيحة جدا، عوقبت بها الدول والإمبراطوريات التي هزمت في الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولكن هذا النجاح ليس مضمونا على طول الخط، فتجارب التاريخ ذاتها أثبتت أنها قد تصبح ناجعة دائما في التجارب الفردية، مع أولئك الساعين خلف المكاسب المادية، لكنها مع الحشود المؤدلجة ستقود حتما لنتيجة عسكية تماما.

المغول والعرب

خذ مثلا المغول، كانت لهم قوة لا تقهر بمعايير زمانهم، استخدموا أبشع أدوات القمع والتنكيل تجاه حكام وأهالي البلدان التي اجتاحوها، ونجحوا من خلالها في السيطرة على جزء كبير من العالم القديم في سنوات معدودة، لكن مع ذلك لم تدم امبراطوريتهم سوى بضعة عقود من الزمن بما لا يتوازى مع هذا الجبروت والقوة التي أبدوها، وتلك القناعة بأنهم يمتلكون مفاتيح الشرق والغرب.

حدث هذا هناك في حين أن الفاتحين العرب لمصر لم يسفكوا الدماء، أو لم يسرفوا في سفكها بما يتماشى مع الحروب الكبيرة، حتى دماء أولئك المحتلين الرومان الذين طلبوا الأمان، سمح لهم أن يفروا دون قتال مع أمتعتهم وثرواتهم، مع أن العرب المنتصرين كان بمقدورهم إبادتهم وسلب ثرواتها كغنائم حرب لتغطية نفقات الجيش كما تفعل أكثر الجيوش.

أيضا لم يحمل العرب الفاتحون أحدا على الدخول في الإسلام من السكان الأقباط، بدليل أن كنائسهم القديمة لا زالت قائمة كما هي ولم تنقطع عنها العبادة بعد ذلك قط، تلك العبادة التي انقطعت في عهد المحتلين الرومان الكاثوليك بسبب اختلافات مذهبية، فشردوا الكهنة  وحاولوا اجبارهم قهرا على اعتناق مذهبهم.

والدليل الأهم أن الإخوة المسيحيين لا زالوا موجودون في مصر رغم مرور 14 قرنا على فتح العرب لها، العرب الذين جاءوا بكل هذا السلام وبقوا وسيبقون إلى قيام الساعة.

وفي المقابل سقطت إمبراطورية المغول وذهبت هيبتهم ومهابتهم ولم يبق لهم ولا لشعبهم شأن يذكر في العالم بعدها.

الحكمة في ذلك يقولها لنا ميكافيللي نفسه وهي أن من يسيطرون على الأرض سريعا يفقدونها سريعا لأنهم يهرولون فوقها ولا يتجذرون فيها.

هذا المثال من ثلة أمثلة أخرى يجري ضربها في التاريخ يؤكد خطأ السياسة الصهيونية القائمة على منطق القوة، وهو المنطق الذي ينذر في النهاية بانقلاب السحر على الساحر والانتهاء لنفس نهاية المغول، رغم أن المغول كانوا يمتازون بمميزات غير موجودة لدى الصهاينة أهمها أنهم الأكثر عددا وجسارة، وأنهم كانوا حينما يهاجمون الحصون يهاجمون بأنفسهم ولا يختبئون خلف دباباتهم ومدرعاتهم الحصينة.

وما سرى على المغول أيضا يسري على الفرنسيين في الجزائر، والطليان في ليبيا، والبرتغال والإسبان في غرب إفريقيا وشرق أسيا.

كما أن تلك النظريات فشلت أيضا في الحالات الفردية، فقد أعدم عمر المختار وأعدم بعده موسوليني، وأعدم جيفارا أيضا، ولكن هذا الاعدام صنع منه بطلا عالميا يطارد مُعدٍميه حتى الأن.

تجارب الأرض المقدسة

ولماذا نذهب بعيدا، وتاريخ فلسطين نفسه فيه ما يكفي على التدليل والبرهنة؟

ففي لحظة من لحظات الضعف الشديد للخلافة الفاطمية الحاكمة لمدينة القدس شن الصليبيون عام 1099م حملة عسكرية موسعة ضدها وضد أجزاء كبيرة من الشريط الساحلي لفلسطين والشام، وانهار الفاطميون بعد حصار استمر قرابة شهر، فدخلها الصليبيون وذبحوا غالبية سكانها المسلمين ذبحا وسبوا نساءها، وأقاموا على أنقاضها مملكة القدس التي ضمت جميع أراضي فلسطين ولبنان الآن، لكن رغم كل هذا لم تدم تلك المملكة إلا قرابة 85 عاما حتى فتحها الفاتح صلاح الدين الأيوبي.

وعقب وفاة الفاتح الكبير دب صراع بين أبنائه وأحفاده نجم عنه ضعف قبضتهم، فعاود الصليبيون مجددا غزو الساحل الفلسطيني فأقاموا مملكة عكا التي ضمت معظم الشريط الساحلي لفلسطين ولبنان الحالية عدا مدينة القدس، ومع ذلك لم تدم هذه المملكة سوى نفس المدة التي قضتها المملكة السابقة واندحرت تماما على يد الظاهر بيبرس ومن تلاه من المماليك.

حتى استيلاء المغول على بلاد فلسطين كان أيضا عابرا وانجلى سريعا رغم ما ارتكبوه من مجازر وذلك لأنهم كان يهرولون فوق الأرض لا يمشون فوقها، ما حال دون بقائهم فيها.

ولو نظرنا إلى الحملة الفرنسية والتي يمكن اعتبارها حملة صليبية ذات شعارات مختلفة، سنجد ذات المعنى أن القوة وحدها لا تصنع انتصارا، وأن القوة المفرطة مهلكة لصاحبها كما هي مهلكة للخصم، فالجرائم التي ارتكبها نابليون في غزة واستيلاؤه على خيراتها لم تحمِ قواته من الجوع والطاعون، وخيانته لحامية يافا التي استسلمت بعدما أعطاها الأمان فأعدمهم جميعا، لم يحقق له الاستقرار، وحداثة أدواته ومعداته وأسلحته لم تضمن له النصر أمام استبسال أبطال عكا، وانسحب يجر أذيال الخيبة تطارده المقاومة، وما عاناه في فلسطين عاناه أيضا في مصر.

….

العرب مكثوا في البلدان التي فتحوها لأنهم لم يكونوا أهل قوة وغدر، بل معين رحمة ورسالة سلام وتعايش، وحينما تخلوا عن الرحمة حتى فيما بينهم وأمنوا للعدو عن الصديق استبدلهم الله كما حدث في الأندلس.

أما الصهاينة فما كانوا أبدا أهل تعايش ولا رحمة ولا سلام، فهم معين لا ينضب من الغدر والخيانة والعنصرية والوحشية، وسيكونون في التاريخ مجرد سحابة سوداء عابرة سرعان ما تبددها ريح عاتية.

سيُسقط أبطال غزة نظريات ميكافيللي ضمن ما أسقطوه من أوهام.

وسوم: العدد 1126