يا أيها الجوع هاجم

ابتهال قدور

حَمَلَه نعيم مخيّلته الصغيرة إلى البساتين على غفلة من وحشة الموت القادم، جال في جنباتها يبحث عن ضحكاته ووثباته، لكنه عثر على جثث أصحابه تحت أشجار التفاح، وتحت كل دالية عثر على جثة أنثى عفيفة، وعند الينابيع رأى جثث الكثير من الرجال، أولئك الذين كانوا حتى وقت قريب يمسكون بزمام السواقي، يديرونها بين حقولهم في ممرات مثمرة تروي عطش الأرض...

تهاوت محاولة المخيّلة المسكينة حين عانقت حزن الحقيقة، وأي حزن هذا الذي لا تقوى حتى المخيلة السارحة من كسره وتجاوزه والقفز عليه، ولو للحظات؟!

 أعيرونا أسماعكم، يا إخوة لنا كنتم في أمسِكم القريب هناك تتلذذون بسندس تلك الأرض، وتتمتعون بظلالها، وتتنعمون بنسماتها وخيراتها، تلك الخيرات التي ما كانت يوماً مقطوعة ولا ممنوعة، بل كانت تقطع الصحارى والوديان تجوب البحار والتلال لتصلكم باسمة ريانة خضرة!

مجاعة مفتعلة على أرض سوريا، إمعانا في قهر شعبها، فصناعة الجوع من أخس الصناعات وأكثرها وضاعة، لأنها تميت ببطء، و تعذب وتوجع أكثر، فتعطي بذلك للمجرم فرصة أكبر للتشفي، ومجالا أوسع لإشباع الحقد و إرضاء الكراهية، وتزيده قرباً من عالم الوحوش، و مباعدة عن عالم الإنسان...

ألا يشكل هذا الخبر صدمة مؤذية للعقل؟ أن يُحاصَر أهل تلك الأرض التي ما انفكت تجود حبا وإيثاراً، فيموتون جوعا بعد أن حُبِست عنهم خيراتهم عمدا وقهراً...

أليس في مضمونه ماهو جدير بأن يزلزل رتابة هذا العالم، أو أن يهز جذور معتقداته، أو أن يحدث ثورة في الأدمغة والنفوس؟!

أفي الشام الخضراء الفيحاء يجوع أبناء الوطن فيموتون، يا من نحن و أنتم هنا وهناك نأكل و تأكلون فتشبعون وتتنعمون!؟

هنا والآن يموت كل ما تبقى من الشعارات، هي تشهر إفلاسها و خواءها، تعلن نتانتها ونفاقها، وحده الجوع الذي في ربوع الشام حي ثري ناطق بنقاء وصدق...

ماعاد الجوع كافرا، فالعالم بكل قانونه اليوم كافر، قد كان في الجوع كفر يوم ساد العدل والصدق، يوم كان للعالم "عمر" يطّوَّف بالأنام، ويَنفذ بصره إلى قِدر جُعِل الحصى فيه زادا، فينفخ و يطبخ ويعيد الضحكات لأم كانت أودعت الألم قلبها...

 أما وقد ساد الظلم والخداع والكذب فقد عاد الجوع صادقا أمينا يفضح الزيف ويسدل الستار على مسرحيات طالت سخريتها...صدق الجوع في وطني، فضح التجويع أكاذيب العالم كله..لطالما تاجر هذا العالم بمجاعات أفريقيا وأحالها لقسوة المناخ، وصوَّر حلولها مستعصية!

حلول مستعصية في أفريقيا، فما بال هذا العالم يتفرج مستمتعا صامتا وقد صنعت فنون المسغبة والتجويع والحصار على عينه في أرض العطاء والنماء!؟

 سلام لكلماتك يا "مظفر النواب" وقد قلت يوماً:

ما أبشع الفقر حين يدافع...

يا أيها الفقر هاجم...

سأستعير منك لأقول:

ما أقبح الجوع حين يدافع ...

يا أيها الجوع هاجم...