دولة العراق والشام: تعالوا إلى كلمة سواء 2

دولة العراق والشام: تعالوا إلى كلمة سواء

(2 من 2)

مجاهد ديرانية

إن الشورى واحدة من أعظم مسائل الاختلاف بين تنظيم الدولة ومعارضيه، وهي لا تبدو مسألة قابلة للحل لأنها تتعلق بكيان التنظيم نفسه، فهو يرى أنه دولة شرعية أسّسها أهل حَلّ وعقد مُعتبَرون واختاروا البغدادي أميراً لها. فإذا رفض أهل الشام إعلان الدولة في سوريا لأنهم لم يشاوَروا فيه فإن جماعة الدولة يقولون: "إن مشاورة الأمير لأهل الحل والعقد من حيث الأصل على الاستحباب لا الوجوب, ولو شاور الإمام أهل الحل والعقد فأجمعوا على أمر لمَا لزم الإمامَ اتّباعُهم, على عكس قول بعض المعاصرين الذين أصيبوا بلوثات الديمقراطية!"

وإذا تساءل أهل الشام: "وكيف صار البغدادي أميراً؟" فإن جماعة الدولة يقولون: "بعد الواقعة التي قدّر الله أن يُقتل فيها أمير المؤمنين بدولة العراق الإسلامية أبو عمر البغدادي ووزيره الأول أبو حمزة المُهاجر انعقد مجلس شورى الدولة الإسلامية لحسم مسألة إمارة الدولة، وبعد لقاء وزراء الدولة وولاتها وأهل الحل والعقد وأصحاب الرأي فيهااجتمعت الكلمة على بيعة الشيخ المجاهد أبي بكر البغدادي الحسيني القرشي أميراً للمؤمنين بدولة العراق الإسلامية".

فإذا قال أهل الشام: "ذلك اجتماع لم نُدعَ إليه ولم نشارك فيه"، فإنهم يقولون: "اتفق العلماء على أن البيعة لا يُشترَط لصحتها مبايعة كل الناس ولا كل أهل الحل والعقد، وإنما يشترط مبايعة من تيسر اجتماعهم من العلماء والرؤساء ووجوه الناس. بل لقد ذهب بعض العلماء إلى أنها تنعقد بواحد من أهل الحل والعقد مطلقاً".

أي أن الشورى من أساسها لرفع العتب، إنْ شاء الأمير أخذ بها وإن شاء لم يفعل! ثم إنّ الأمة المسلمة كلها تُختزَل في العدد القليل من الناس، وربما وصلت المهزلة إلى أن ينطق باسمها وينوب عنها رجل واحد، فإذا اختار هذا الواحدُ رجلاً يعرفه فقد انعقدت له الولاية العظمى ولو كان مجهولاً لا يعرفه الناس.

ولو أننا سألنا مدهوشين: كيف نبايع رجلاً مجهولاً لا نعرفه؟ فإنهم يقولون: "حتى لو كان مجهولاً عند العامة فلا مطعنَ في ولايته, قال الماوردي: إذا استقرت الخلافة لمن تقلّدها -إما بعهد أو اختيار- لزم كافةَ الأمة أن يعرفوا إفضاء الخلافة إلى مستحقها بصفاته، ولا يلزم أن يعرفه بعينه واسمه إلا أهل الاختيار الذين تنعقد ببيعتهم الخلافة".

إنه المنطق نفسه الذي تسلط به المستبدّون والطغاة على أقطار العالم الإسلامي على مرّ القرون؛ منطق يعطل الشورى التي هي من أركان الحكم الإسلامي ومن مبادئه الكبرى ويهمّش دور الأمة مع أن الأمة هي مصدر السلطات في الإسلام، وهو منطق مرفوض ولو قال به الماوردي والقلقشندي وأبو الحسن الأشعري ومئة من الفقهاء وأهل العلم المشهورين، فإنّ منطق القرآن أعلى وأسمى، وإنّ فِعْل الصحابة وسنّة الراشدين أَولى بالاتّباع.

*   *   *

لقد اتفقت الفصائل الجهادية كلها على أن القرارات المصيرية في سوريا لا تُتّخَذ إلا بالشورى الموسَّعة، ولكن تنظيم الدولة سبق فأعلن أنه هو الدولة صاحبة الرأي والسلطان وأن على سائر الجماعات أن تدخل في طاعتها وتبايع أميرها: "يا أبناء الشام: تذكّروا أنكم خُذلتم من سائر الحكام عدا الشيخ أبي بكر البغدادي حفظه الله, فقد فداكم بماله ورجاله حتى حرر من بلادكم أرضاً واسعة, فحريٌّ بكم الوفاء ببيعته أميراً عليكم، فهو من خير الأمراء. يا أمراء الجماعات الجهادية: أما آن لكم أن تتكاتفوا مع إخوانكم وتؤسسوا دولتكم؟ إن كنتم ترون أنفسكم أقراناً للشيخ الأمير أو أنه دونكم في الفضل والخير فتواضعوا للحق ولا تترفعوا على الخلق، فمدوا الأيادي لبيعة البغدادي."

ما سبق (بين الأقواس) هو خاتمة رسالة يتداولها أنصار الدولة بعنوان "مُدّوا الأيادي لبيعة البغدادي"، وهم يرون فيها أنه صاحب الراية والدولة، فكل من رفع راية غيرها فقد شَقّ الصف وكل من تخلف عن بيعته فقد فارق الجماعة!

أين عقولكم يا أنصار الدولة؟ هل كانت سوريا خالية من الأجناد والقادة عندما أعلن البغدادي عن دولته؟ ألم يكن فيها مئات من الجماعات المقاتلة لكلٍّ منها أمير؟ حتى لو قلتم إن الدولة وُجدت في سوريا بوجود النصرة فإن الأمر لا يتغير كثيراً، لأن سوريا كانت فيها مئات الكتائب والجماعات عندما أعلنت جبهة النصرة عن ولادتها أوائل عام 2012؛ سبقتها إلى الميدان ألوية صقور الشام وكتائب أحرار الشام وتجمع أنصار الإسلام وكتائب الفاروق ومئات من الكتائب والجماعات، فكيف صارت هذه كلها فروعاً ودولة العراق هي الأصل؟ بأيّ عصا سحرية انقلب الفرع أصلاً وصارت الأصول هي الفروع؟

إنه سحر الاسم. لمّا سَمّت تلك الجماعة نفسَها دولةً صدّقت أنها دولة وصدّق أتباعها وأنصارها أنها كذلك. إن للأسماء لسحراً، ولكنه سحر لا ينطلي إلا على السذّج، وأرجو أن لا يكون قرّاء هذه المقالة منهم. إن أحرار الشام يسمّون فرعهم في حلب "مكتب حلب" وتسمّي جماعة الدولة فرعها "ولاية حلب"، فهل جعلت الأسماءُ الواقعَ مختلفاً؟ هل السبّاق إلى اسم "الدولة" صار من حقه احتكارُ السلطة وفرضُ نفسه على الآخرين؟ هل هو تنافس: يصبح دولةً مَن يسبق ويسجل حق ملكية اسم الدولة؟ لقد صار تأسيس الدول أشبه بحجز نطاق (دومين) في عالم الإنترنت!

نحن نعلم (ونريد من إخواننا في تنظيم الدولة أن يعلموا) أن اسم الدولة لا يقدم ولا يؤخر، ونعلم (ونريدهم أن يعلموا) أن جماعات كثيرة على الأرض أقوى من دولة العراق والشام وأكبر وأكثر انتشاراً وأعظم أثراً في المعركة، ولو أن الأمر بالأسماء لصارت في سوريا مئة دولة، بل مئات: دولة حلب ودولة إدلب ودولة دير الزور ودولة درعا، بل إننا سنجد أن دولة دوما وحرستا ودولة داريا والمعضمية أقوى وأوسع من دولة العراق والشام!

*   *   *

الجماعات المقاتلة في سوريا متفقة على الشورى الموسَّعة كما قلت آنفاً، فإذا شكلت مجلساً للشورى -لاختيار قيادة عسكرية أو إدارة مدنية- وسلّم تنظيم الدولة به لم يعد دولة وصار فصيلاً كسائر الفصائل، فصيلاً من حقه أن يَنتخب ولكنه قد لا يُنتخَب في أي إدارة مدنية أو عسكرية، وإذا أصر على أنه الدولة ولم يشارك في الشورى فما هو الحكم الشرعي في الفصائل الرافضة؟ أنا أعرف الجواب ولكني أحب أن أسمعه من أنصار الدولة: هل للمخالفين الذين يرفضون سلطة الدولة الإسلامية اسم غير "الفئة الباغية"؟ وما هو الحكم الشرعي في البغاة؟ أيضاً أعرف الحكم ولكني أحب سماعه منكم. أليس القتال؟

أنتم بين اثنتين: إما أنكم تظنون أن جميع القادة سيبايعون البغدادي وتصبح جماعاتهم جزءاً من الدولة، أو أنكم توافقون على القتال. الأولى لا يتوقعها عاقل، وأنتم تعلمون أن الجماعات المسلحة الإسلامية وغير الإسلامية لا تقبل أن تصبح جزءاً من الدولة. إذن فأنتم لا ترون بأساً في القتال لأن الإمامة لمَن بويع أولاً وأيّ إمام يُبايَع بعده تُضرَب عنقه، ولأن "التغلّب" طريقة شرعية للوصول إلى السلطة كما تعتقدون. هل يوجد حل آخر لم أفكر فيه؟

قد تستغرقون في الأحلام وتقولون إن البغدادي هو إمام المسلمين الذي لن يتردد في مبايعته أحد. عندي خبر سيّئ: لا يشارككم في هذه الأوهام أحد من العقلاء. سأبدأ بنفسي: هل يمكن أن أبايع مجهولاً لا أعرفه ولم أرَه قط؟ في الحقيقة لم أبلغ بعد هذه الدرجة من البلاهة، فلماذا أفترض أن غيري أقل نباهةً مني وما أنا إلا واحد من عامة الناس؟ لا شك أن الذين تصدّروا للقيادة والعمل العام على درجة عالية من الوعي والإدراك، فما وجدته أنا فكرة سخيفة سيجدونه هم أقرب إلى الجنون! بل إنني لو عُرضت عليّ قائمة فيها عشرة أسماء لاستغرقت شهراً في التفكير أيّهم أختار، وكذلك يصنع عامة السوريين العقلاء، فكيف أقبل أن يأتي من لا أعرف فيختار من لا أعرف ليصبح إمامَ الوقت وأمير المؤمنين؟

يا ضيعةَ عقل من يقبل على نفسه ذلك! وأيّ شيء تركتم للرافضة والباطنية وأصحاب النِّحَل الباطلة يا من قبلتموه على أنفسكم؟ إن من يتبع مجهولاً لا يُعرف اسمه ولا تُعرف صورته (ونحن في زمن الإنترنت والفضائيات) ليس أحسنَ عقلاً ممن يتبع إماماً اختفى في السرداب. أقسم أن الاثنين سواء! وكيف تسوّغون لإمام الجهاد أن يختفي وراء أسماء وهمية وقدوتُه في جهاده هو إمام المجاهدين محمد صلى الله عليه وسلم، وما عُرف أنه استتر وأخفى نفسه ولا صنع ذلك أحدٌ من أصحابه. ليس معروفاً هذا في تاريخنا إلا عند الشيعة، وهو باب خطر عظيم لأن المرء يمكن أن يتبع باطلاً وهو يظن أنه يتبع الحق. ثم إن إخفاء هوية قائد المعركة لا يمكن أن يقبله أحد في سوريا التي كشف المجاهدون جميعاً فيها عن أنفسهم، فلا يُعقَل أن يكون الجند أكثرَ شجاعة من قائدهم فيخوضوا لهب النار ويتخفى هو وراء الأستار. يا للعار!

*   *   *

إن المرأة الواحدة لا يتزوجها رجلان، والأرض الواحدة لا تقوم عليها دولتان. ماذا يعني هذا؟ إنه يعني أن على كل الفصائل المجاهدة والهيئات السياسية والكيانات الثورية -على اختلاف ألوانها وأشكالها- أن تبايع دولة العراق والشام وتصبح جزءاً منها. إن اعتبار أصحاب تنظيم الدولة أنهم دولة جعلهم مقتنعين بتنزيل أحكام الدولة عليه، وأهمّها وأخطرها أن أمير التنظيم هو بالضرورة أمير المؤمنين واجب الطاعة (ومن أجل ذلك حرصوا على إثبات "قُرَشيّته" خروجاً من خلاف علماء السياسة الشرعية في وجوب كون الإمام من قريش). وبما أن الجماعات المقاتلة في سوريا لن تخضع للدولة طوعاً فليس أمام الدولة إلا أن تقاتل أو تنسحب من الميدان. لو سألونا الرأي لقلنا: انسحبوا من الميدان، ولكن لا يبدو أن هذا هو الرأي الذي اختاروه.

لقد تواردت الأنباء وتواترت خلال الشهر الأخير بما يدعو إلى الخوف والترقب: بدأ تنظيم الدولة بحملة محمومة لتوسعة حجمه وزيادة قوته، وهو يقوم الآن بتجنيد من يَعُدّهم الناس من الرعاع، من شبّيحة ومجرمين ومهربين، ويدفع لكل من ينضمّ إليه راتباً شهرياً لا يحلم المجاهدون في النصرة وغيرها بمعشاره. من أين يأتي هذا المال؟ ليس هذا هو السؤال الأخطر، إنه: لماذا تصنع الدولة ذلك في هذا الوقت بالذات؟

أنا لا أقرأ كتاب الغيب، ولكني أعلم من قراءة الحاضر أن ثمة شراً كبيراً وراء باب الغد إذا استمر تنظيم الدولة بتقمص دور الدولة، وأن من مصلحة حاضر سوريا ومستقبلها ومن مصلحة مشروعها الجهادي والدعوي أن يتخلى تنظيم الدولة عن الوهم وأن يعلن أنه جماعة جهادية كسائر الجماعات، وأن يتخلى عن منهج التكفير، وأن ينشغل بالحرب ويترك الحكم ويخرج من المدن ويرابط على الجبهات. إذا لم تكن الدولة قادرة على صنع ذلك أو كانت غير راغبة فيه فإننا نشكرها ونقول لها: اتركي الشام لأهله ودعينا نقاتل عدونا وظهرنا آمن.