النموذج التركي مرة أخرى

د. سعيد الحاج

منذ سطوع نجم "حزب العدالة والتنمية" التركي، بدأ الحديث في العالم العربي خصوصاً عن التجربة التركية ومميزاتها وعن النموذج التركي الجديد في الحكم، وكيف نجح في تحييد الخصوم، وكسب الشارع والشرعية، ليتربع على عرش الحكم سنوات مديدة دون منافسة تُذكر.

وبينما كان القادة الأتراك يخوضون معاركهم السياسية والاقتصادية والقانونية باقتدار، كان الإعجاب بهم يزداد يوماً بعد يوم في شوارع العواصم العربية التي فقدت وافتقدت شيئاً مماثلاً تفخر به. ولربما كانت أهم ثلاثـة عناوين في "التجربـة التركيـة" هي التنميـة الاقتصاديـة، والانفتاح على الآخر داخلياً وخارجياً، والتخلص من سـيطرة العسـكريين على الحياة السـياسـيـة.

ولئن كان الإنصاف يدعونا إلى الإقرار بما لهذه التجربة من نجاحات لا تُخطؤها العين في مختلف المجالات، إلا أننا تحفظنا منذ البداية على مصطلح "النموذج التركي"، حين يُقصد منه الرغبة في التقليد والنسخ؛ فكثير ممن لم يطلعوا على تفاصيل المشهد التركي وأُعجبوا بالنتائج دون الإطلاع على المعطيات، كانوا يدعون إلى "استنساخ" التجربة ونقل النموذج!

وقد كان لمصر الحظ الأكبر من الاهتمام والمتابعة، باعتبارها قاطرة العالم العربي وربيعه الواعد، ولتشابه البلدين في الكثير من التفاصيل. الكثيرون طالبوا الإسلاميين (الإخوان تحديداً) بالإقتداء "بحزب العدالة والتنمية" لجهة نبذ الخطاب الحزبي والانغلاق على طريقة الراحل (نجم الدين أربكان)، وتبني سياسات (أردوغان) المنفتحة على الجميع. بل وصل الأمر بالبعض إلى مطالبة شباب الإخوان بالإنشقاق عن قيادتهم تشبهاً بقيادات "العدالة والتنمية" الشباب.

أكدنا في كل مجال ومحفل على خطأ هذا التفكير وسـطحيتـه؛ إذ أن نجاح التجربـة التركيـة كان مرهوناً بمناسـبتها للحالـة التركيـة، وبالتالي فإن إمكانيـة نجاحها بمنطق "القص والنسـخ" لم تكن يوماً واردة!

اليوم، وبعد الإنقلاب العسكري في مصر، ترتفع أصوات أخرى تُطالب الإخوان والإسلاميين باتباع النموذج التركي، لكن هذه المرة ممثلاً في الراحل (نجم الدين أربكان)، الذي لم يكن ينزل بأنصاره إلى الشـارع بعد أي إنقلاب عسـكري، بل كان يعمل على إنشـاء حزب جديد، ويُتابع العمل السـياسـي مرة أخرى.

وهنا، لا بد لنا من بعض النقاط والملحوظات، على هامش هذه الدعوات:

أولاً ـــــ المطالبة بأمور متناقضة ـــــ لفظ نهج الراحل (أربكان) ثم الإقتداء به ـــــ توحي بالإنتقائية والسطحية في التناول.

ثانياً ـــــ المطالبة الحالية تأتي في أغلب الأحيان ممن لا يؤمنون بالتجربة التركية ولم يروا فيها يوماً إلا شراً مستطيراً يريد إعادة السيطرة على المنطقة. فكيف يُطالبون اليوم باتباعها؟

ثالثاً ـــــ الاختلافات الكبيرة بين مصر وتركيا، تاريخاً وواقعاً، تجعل من الإقتداء بنهج المرحوم (أربكان) إزاء الإنقلابات العسكرية خطأ فادحاً، فمثلاً:

1 ـــــ في تركيا هناك تقاليد ديمقراطية راسخة منذ 1876، بينما أُجهضت التجربة الديمقراطية المصرية في مهدها، ولم يُسمح لها بتلمس الطريق.

2 ـــــ رغم قيامهم بأربعة إنقلابات عسكرية، لم يرغب العسكريون في تركيا يوماً بالحكم، فكانوا يُسلمونه بعد كل إنقلاب لسلطة مدنية ويُمارسون وصاية عن بعد، بينما في مصر حكموا ويحكمون بشكل مباشر ولا يسمحون بحياة ديمقراطية وحكم مدني.

3 ـــــ في كل إنقلاب عسكري تركي، كان يتم القبض على بضعة أشخاص وحرمان البعض الآخر من الحياة السياسية لخمس سنوات (وبعض الإعدامات أحياناً)، مما يُتيح لمن بقي أن يُمارس السياسة ويعود للمشهد أحياناً بقوة أكبر، لكننا نرى في مصر حرباً شعواء ضد كل رافضي الإنقلاب توحي بمعادلة صفرية واضحة.

4 ـــــ كانت المعركة في تركيا دائماً حول الهوية، أما في مصر فهناك صراع على الهوية، لكنه قبل ذلك وبعده معركة أيضاً حول مفهوم الديمقراطية وتداول السلطة واختيار الشعب.

5 ـــــ نظر السياسيون الأتراك للإنقلابات العسكرية كجزءٍ من عملية ترسيخ الديمقراطية والكفاح السياسي، ولذلك كان همهم الحفاظ على كتلتهم الشعبية وأدائهم الحزبي ومواصلة الطريق، بينما نحن في مصر أمام مشهد ثوري ينقض بنيان نظام خربٍ هرم، في معركة معيارها نجاح الإنقلاب أو فشله، سيرسم على إثره تاريخ مصر والمنطقة.

يحق لمصر وأهلها، بل يجب عليهم، أن يسـتفيدوا من كل تجربـة ناجحـة، خاصـة تلك التي تتشـابـه مع تجربتهم في ظروف موضوعيـة كثيرة، لكننا يجب ألا ننسـى أن الأشـجار المثمرة هي تلك التي تنبت في مكانها الصحيح وظروفها المناسـبـة. إن التعامل مع التاريخ والتجارب السـياسـيـة بالإجتزاء والأهواء جرم بحق التاريخ وجريمـة بحق الحاضر والمسـتقبل.