عقبات أمام "تركيا الكبرى" وضرورة النقد الذاتي

عقبات أمام "تركيا الكبرى" وضرورة النقد الذاتي

ياوز أجار

شهدت العاصمة الصومالية مقديشو أواخر الشهر الماضي انفجارًا وقع أمام إحدى المقرات التابعة للسفارة التركية، أفضى إلى استشهاد ستة أشخاص، وإصابة العشرات بجروح.

وقد تبنّت الهجوم الغاشم حركةُ شباب المجاهدين الصومالية، القريبة من تنظيم القاعدة، وأطلقت عن تهديدها لتركيا بمواصلة هجماتها على الدبلوماسيين الأتراك المقيمين في الصومال، إن واصلت دعمها للنظام "المرتدّ" الحاكم في البلاد، معتبرة إياها "واحدة من الدول الساعية لدعم هذا النظام، وهدمِ الشريعة في الصومال"، على حد وصفها.

وفي رسالة نشرها عبر حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، أدان نائب رئيس الوزراء التركي "بكير بوزداغ" هذا الهجوم الغادر، وأكّد أن هناك من يشعرون بالضيق والحرج جرّاء المساعدات التي تقدمها بلاده إلى الصومال، والوجود التركي في الصومال وعموم أفريقيا، وأضاف "هناك أطراف بعينها لا ترغب في رؤيتنا في الصومال. وأقول لهم إن مساعيكم ستبوء بالفشل؛ إذ إنكم لا تعرفون الأتراك وعزميتهم الفولاذية"، على حد تعبيره.

من جهته، أعلن مهندس الخارجية التركية  "أحمد داود أوغلو" أن تركيا لن تغيّر أي شيء من سياستها نحو الصومال، ولن يكون هناك أي تغيير تجاه إستراتيجيتها في أفريقيا، مشيرًا إلى أن منفذي التفجير الإرهابي يسعون إلى ترويع تركيا وتثبيط همم الأتراك عن دعم إخوانهم الصوماليين، ولكن بلاده لن ترضخ أمام هذه التهديدات وستواصل الوقوف إلى جانب الشعب الصومالي، وتقديم المساعدات الإنسانية وتنفيذ استثمارات ومشاريع اقتصادية في الصومال.

يبدو من هذه التصريحات والتصريحات الأخرى التي أدلى بها كبار المسؤولين الأتراك الآخرين أن أنقرة تعرف "الجهة الحقيقية" التي تقف وراء هذا الاعتداء الغاشم، وترفض "الرسالة" التي أراد أصحابها إيصالها إليها عبر منظمة حركة شباب المجاهدين الصومالية الإرهابية.  

إذن فما تفاصيل هذه الرسالة؟

لا شكّ في أن هذه العملية الإرهابية تحمل رسالة سياسية تخصّ الانفتاح التركي الكبير على أفريقيا، في السنوات الأخيرة على وجه الخصوص؛ ذلك أن زيادة الظهور التركي في تلك المنطقة التي كانت مستعمرات بريطانية وفرنسية سابقًا، بدأت تثير انزعاج البعض واشمئزازه إلى حد بعيد. كما لا ريب أن القوى العالمية المهيمنة ستواصل، كما يظهر من تصريحات المنظمة التي حملت الرسالة إلى أنقرة باسم تلك القوى، استهداف تركيا ما دامت أنها مصرّة على تقوية ظهورها في أفريقيا، إذا ما علمنا أن تلك القوى لن تواجه أي مشاكل وصعوبات في استئجار منظمات، أياً كان قناعها، لتنفّذ عمليات إرهابية تخدم مصالحها.

وكما قال الكاتب الصحفي الخبير "محمد كاميش" في مقاله المنشور بجريدة "زمان" التركية، فإن "تركيا تتعرّض لحرب نفسية سرية شاملة من قبل مَنْ رسم خارطة المنطقة"؛ فهذا الهجوم يستهدف في المقام الأول السياسة الخارجية العامة لأنقرة، وبوجه خاص السياسة التي تنتهجها في منطقة الشرق الأوسط. وبعبارة أخرى، فإن ما حدث في الصومال أواخر الشهر المنقضي عبارة عن إطلاق نار على تركيا من قبل الدول التي تحوز "ملكية الشرق الأوسط".

وإذا ما ألقينا نظرة كلية على ما حدث في الآونة الأخيرة من التغيير الحاصل في الموقف الغربي من النظام السوري، والانقلاب العسكري الذي حدث في مصر على مرأى ومسمع من الجميع، وتبديل أمير دولة الكويت، وما أعقبها من اضطرابات في تونس عقب اغتيال النائب اليساري المعارض "محمد البراهمي"، وكذلك التطورات الساخنة في ليبيا، نخلص حتمًا إلى أن هناك "حربًا سرية شاملة" تستهدف تركيا.

وإن عدنا إلى ما قبل ستة أشهر فقط، نرى أن كلاً من تونس ومصر وليبيا كانت قد انسلخت من الأنظمة القمعية السابقة وبدأت الديمقراطية هي التي تحكم فيها، أما سوريا فكانت في طريقها إلى الانتقال إلى هذه المرحلة، ولكن ما الذي حدث بعد ذلك حتى تحوّل ما توهّمناه "ربيعًا عربيًّا" إلى خريف؟!

كانت نجمة تركيا بدأت تلمع في سماء المنطقة، خاصة في السنوات الأخيرة، بحيث رأيناها تعلي صوتها على إسرائيل في المحافل الدولية، كما شاهدنا ذلك في المشادة الكلامية التي دارت بين "أردوغان" و"بيريز" في "دافوس"، وتعلن عن ضرورة تغيير نظام بشار الأسد في سوريا، وتقيم علاقات وطيدة مع مصر، وتتولى حتى إدارة الدعايات الانتخابية لحزب النهضة الحاكم حاليًّا في تونس. بل وصل الأمر إلى حد بدأت فيه الأصوات تتعالى في الأوساط الحكومية وتتحدّث عن "العثمانيين الجدد"، حتى كادت تركيا أن تصبح دولة رائدة في المنطقة، والأخ الكبير الحامي لها، بين ليلة وضحاها!

ضرورة النقد الذاتي

ولكن ألم يكن من الضروري أن يكون هناك عناصر ومقوّمات تمكّن تركيا من تحديد وتوزيع "أدوار" للدول اللاعبة، وتلقين درس لإسرائيل حتى تعرف حدودها، في منطقةٍ كالشرق الأوسط كانت مصدرَ حياةٍ للاقتصاد العالمي والأفكار الإدولوجية المختلفة منذ القديم؟! ألم يكن يتعيّن على تركيا بينما هي تتصدّر واجهة الأحداث في المنطقة، أن تتمتّع بنظام اقتصادي رصين، وقوة عسكرية مرموقة، وسياسة عبقرية فريدة؟! فهل من الممكن أن تسمح الدول المهيمنة، التي رسمت خارطة الشرق الأوسط على حساب مقتل ملايين الناس لتركيا بأن تبسط نفوذها، وتضاعف قوتها، وتوسّع نطاق سيطرتها في هذه المنطقة إلى هذه الدرجة إن كانت هي تفتقد إلى هذه العناصر والمقوّمات؟

لذلك فما مضى وقت حتى أخذت الأمور تنقلب رأسًا على عقب، وتنهار واحدًا تلو الآخر كافةُ الصروح التي أقامتها تركيا في المنطقة.. ومن الطبيعي جدًّا، والحال هذه، أن نوجّه سهام الانتقاد نحو القوى الخارجية لنفاقها وازدواجية المعايير التي تتبعها، شريطةَ أن لا ننسى النظر إلى الأخطاء التي ارتكبناها في التعامل مع الأحداث والأصدقاء والأعداء.

وكما ذكر الكاتب الصحفي المذكور، فإنه يمكن تقسيم السياسة الخارجية المتبعة حاليًّا في العالم إلى نوعين؛ فالنوع الأول هو السياسة المبنية على القوة المادية، أي الحرب، التي كثيرًا ما تلجأ إليها الولايات المتحدة الأمريكية كطريقة لحلّ المشاكل. أما الثاني فهو السياسة الخارجية التي تنفّذها بريطانيا.. فهي تفعل كل شيء، وتدبّر كل الأمور، وتحدّد جميع اللاعبين المؤهّلين، وتوزّع عليهم الأدوار، وتقيم أي نظام تريده عن طريقهم، ولكن دون إصدار ضجة وضوضاء، ودون أن يراها أحد في واجهة الأحداث، ودون أن تُشعر بالناس "اليدَ الخفية" الصانعة للأحداث وراء الستار، الأمر الذي يضمن لها الحصول حتمًا على النتائج التي ترغبها. لذلك تتداول كلمة "العداء الأمريكي" على ألسنة الناس، إلا أن الحديث عن "العداء البريطاني" غير وارد. والواقع أن بريطانيا هي التي رسمت خارطة كافة المناطق البارزة في العالم، مثل الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية بعد انهيار الدولة العثمانية. كما أن جميع الخرائط المتنازع عليها في الوقت الراهن تحمل بصمات بيرطانية أيضًا. على الرغم من كل ذلك، لا نشاهد، للأسباب سالفة الذكر، تظاهراتٍ تستهدف البريطانيين مثل التظاهرات التي تندّد بما يرتكبه الأمريكيون من ظلم بحق الشعوب في شتى بقاع العالم.

وجوب الالتزام بالقوانين السارية في النفس والمجتمع

وفي هذا السياق، لا بد أن نتذكّر بأن للنجاح قواعد "موضوعية" مستقلة عن الأشخاص، فمن يتبعها ينجح ولو كان كافرًا؛ ومن يهملها يخسر ولو كان مسلمًا. فالصفات هي التي تنجح أو تخسر، وليست الأسماء. فالله سبحانه وتعالى يتعامل مع الإنسان وفق صفاته لا اسمه، مصداقًا لقوله عزّ وجلّ (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى). ولهذا لا نجانب الصواب إن قلنا إن الحملة السرية والحرب النفسية التي نتعرّض لها في كافة أنحاء المنطقة، ما هي إلا نتيجة صنعناها بأيدينا، تمخّضت عن أخطائنا المتراكمة عبر السنوات. لذا فإن اتباع سنن التغيير الاجتماعية، وسلوك الطريقة التدريجية الحكيمة، وإلقاء الخطوات دون تحريك الأولياء أو الأعداء وتسليطهم علينا، ودون إثارة مشاعر الحسد والحقد والعداوة لديهم، استلهامًا من دستور (وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا)، يكتسي أهمية قصوى بالنسبة للسياسة الخارجية التي من المفترض أن تنتهجها أنقرة في منطقة الشرق الأوسط الحساسة جدًّا.