تقبيل السيوف.. وتقبيل البيادة!

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

في تراثنا الأدبي العريق كثير من النصوص تشيد بالشجاعة والبطولة في المعارك ضد الأعداء والمهاجمين للأوطان والديار، ومن هذه النصوص الخالدة أشعار عنترة بن شداد الذي دافع عن قومه وأهله ، وعُرف بالبطولة والشهامة والتضحية حتى ضرب به المثل في الشجاعة ومقاتلة الأعداء ودحرهم .

يقول عنترة مخاطبا عبلة :

وَلَقَد ذَكَرتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ  - مِنّي وبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي

فَوَدَدتُ تَقبيلَ السُيوفِ لأَنَّها -       لَمَعَت كَبارِقِ ثَغرِكِ المُتَبَسِّمِ

والفكرة في البيتين بسيطة وعميقة في آن . إنه يعبر عن حبه لعبلة وشجاعته في القتال لدرجة أنه يتذكرها وهو يحارب ويقاتل بشجاعة وبسالة بينما الرماح تنهال عليه  والسيوف القاطعة تنال من لحمه وجسده وتجعل دمه يسيل ويقطر بغزارة .

إن لمع السيوف في القتال يستحضر في ذهنه ثغر عبلة الذي يتبسم وتظهر ثناياه اللؤلؤية وهنا العمق الذي يحول الشجاعة إلى ممارسة تلقائية وفطرية . 

شجاعة  المقاتل تدفعه  لتقبيل السيوف ، ولكن لدينا شجاعة من نوع آخر في القرن العشرين ؛ هي تقبيل البيادة التي تقتل الأهل والعشيرة والقبيلة والوطن . البيادة كما يفترض في زماننا رمز للشجاعة في مواجهة العدو النازي اليهودي الذي يحتل أراضينا ويفرض علينا إرادته ، ويملي علينا شروطه ، ويضرب دون أن يجد رد فعل ، بل علّمنا رذيلة من أحطّ الرذائل وهي الانسحاب أمامه فيحتلّ الأرض ويهتك العرض ويأخذنا أسرى بالمجان ، ولكنها تحولت إلى رمز لإذلال الأمة وشعوبها !

أوردت الأنباء مؤخرا أن  إحدى المذيعات العربيّات قامت بتقبيل بسطار ( بيادة ) جندي سوري على الهواء مباشرة أثناء استضافتها في برنامج حواري  على قناة “الإخبارية السورية” التابعة لنظام بشار الأسد. المذيعة المذكورة مؤيدة للنظام السوري ، وقد أوضحت أنها حصلت على “بسطار” الجندي السوري ( بيادته ) في أثناء زيارتها إلى منطقتي صيدنايا ومعلولا في ريف دمشق قبل مدة، وأضافت: “قلت لأحد الجنود: والله لن أغادر حتى أحصل على فردة سباطك ( حذائك ) ، فتحيّن الفرصة لحين وقت الغداء وذهب لمنزله وأحضر لي فردة بسطار آخر لديه ( بيادة ) هدية لي”.

وتابعت المذكورة في أثناء تقبيلها واحتضانها البيادة “البسطار”: “هذا ما اشتهيته من سوريا، هذا البوط العسكري هو من سيفرض السلام (؟!) ، هؤلاء الجنود الأبطال ضحوا بدمائهم من أجل السلام (؟!)، وكرمال ( من أجل ) أمة بأكملها”.

المذكورة كانت تقدم برامج ثقافية في بعض القنوات الفضائية . يعني يفترض أنها تملك وعيا ثقافيا فائقا يؤهلها أن تفهم الدور الحقيقي للبيادة أو البسطار كما يسمى في بلاد الشام ، وهو الوقوف على الحدود السورية المحتلة في الجولان ، لمواجهة العدو النازي اليهودي ، وإرغامه على ترك الهضبة المحتلة ، وطرد قواته الغازية وكسرها ، وهنا يحق للمذيعة وغيرها أن تعبر عن مشاعر الفخر والاعتزاز بلابس البيادة أو البسطار دون أن تقبلها أوتحتضنها .

إذا كان بعض العوام يسمحون لأنفسهم برفع البيادة في أيديهم وتقبيلها ووضعها على رءوسهم أو رءوس أطفالهم كما جرى في أم الدنيا ، اعتقادا منهم أن الحكم العسكري خير وأبقي من الحكم الديمقراطي ، فقد يلتمس بعض الناس لهم العذر ، ولكن ما عذر المذيعة المثقفة الواعية التي تعرف أن الحكم الديمقراطي هو الحرية والكرامة والعدالة ، وهو أيضا القوة التي تصنع جيشا يهزم الأعداء ويرعبهم ويرهبهم ، ويمنعهم من التفكير في العدوان واحتلال الأرض وانتهاك العرض ؟

هل الشعب السوري هو العدوّ ، والبيادة هي التي ستفرض عليه السلام مع الطائفة ؟

للمذيعة المثقفة حق الولاء لمن تشاء ، ولكن ليس من حقها أن تسيء إلى ربع مليون شهيد سوري بريء داس فوقهم البسطار أو البيادة السورية ليجلس بشار الأسد وعائلته وطائفته على قلب الأغلبية السورية بالدم والنار والدموع والتهجير والنزوح والبراميل المتفجرة والغازات السامة والصواريخ أرض - أرض ؟

هل تعلم المذيعة المثقفة أن أكثر من نصف الشعب السوري هربوا من بلادهم ، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ، وأعداد غير قليلة منهم لجأت إلى التسول كي تستمر على قيد الحياة في أرجاء البلاد العربية ، أو ركوب قوارب الموت التي تبحر نحو أوربة ؛ بينما الطاغية يستضيف حضرتها في تلفزيونه ويوفر لها إقامة فاخرة في دمشق ومكافأة كبيرة ردا على عشقها للبيادة أو البوط أو االبسطار ؟ 

ربما سمعت المذيعة التي قبلت البيادة عن شاعر تونسي اسمه أبو القاسم الشابي ، له قصائد مشهورة عن الحرية والكرامة الوطنية والاستقلال ، ومنها قوله المشهور :

إذا الشعب يوما أرد الحياة فلا بد أن  يستجيب القدر

ولا بد لليل أن ينجلي         ولا بد للقيد أن ينكسر

على مدى أربعين عاما حكم آل الأسد أهل الشام ، فأذلوهم وأذاقوهم سوء العذاب وجلبوا لهم عار الهزائم من اليهود الغزاة ، وأكثروا في الأرض الفساد ، وانحطوا بمستوى الوطن اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا ، وحرّموا الحرية على الشعب الطيب المسكين ، ولم يكتفوا بذلك بل حرموا عليه الإسلام بمفهوم رب العالمين ، وأقاموا له مذبحة مروعة في حماة وغيرها عام 1982م، تعدى ضحاياها أربعين ألف شهيد ، عدا من جرحوا وأصيبوا وتشرّدوا في المنافي ، والبيوت التي دمرت ، والمساجد التي هدمت ، والأحياء التي خربت ....

الطاغية الذي يقود الطائفة النصيرية التي تحكم بلاد الشام لا يعرف للوطن معنى ، ولا للاستقلال قيمة ، ولا للأخلاق دلالة ، ويظن أن المجزرة التي يقيمها للشعب السوري تحت دعوى المقاومة والممانعة ستمضي دون أن يحاسب هو وأتباعه على جرائمهم ضد الإنسانية ، ويتصور أنه يخدع بعض الناس مثل مذيعة تقبيل البيادة المذكورة – ولكن الدنيا كلها تعلم أنه يُضرب على قفاه بين حين وآخر من جانب العدو الصهيوني ولا يستطيع أن يقاوم أو يمانع ، بل إنه يبدو مثل المريض المازوكي الذي يستطيب الجلد والتعذيب . تمنيت أن يرد على العدو الذي يستمتع بقصف معامله ومعسكراته وقواعده وصواريخه وقوافله ببرميل واحد من تلك التي يصبها على شعبه المسكين فيقتل الأطفال والنساء والبسطاء ، ولكنه لا يفعل أبدا ، ولا يتجه ناحية الغزاة اليهود إطلاقا ، ومع ذلك يجد في نفسه الجرأة ليقول إنه مقاوم وممانع !

شراء الأبواق لا يجدي في معركة الطاغية النصيري مع الشعب السوري البطل ، فلا المذيعة التي قبلت البسطار ، ولا الخسيس الذي يعمل في الصحافة المصرية ويزعم أن بشارا أشرف من رافضي الانقلاب العسكري في مصر ، ولا الجنرال قاسم سليماني ولا الشيوعيون والناصريون وحزب الله يمكن أن يعيدوا عجلة المستقبل إلى الوراء .

الله مولانا . اللهم فرّج كرب المظلومين . اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم !