فرنسا إذن تصعد ضد عموم الإسلاميين

ياسر الزعاترة

إذا كان بوسع فرنسا بقيادتها اليسارية (هل تغير القوى الإمبريالية الغربية سياساتها بتغير الحكومات؟!)، إذا كان بوسعها أن تبرر تدخلها في مالي بطلب ذلك من قبل السلطات “الشرعية” في البلاد، وربما بترحيب قطاع من السكان، فبأي منطق تبرر تدخلاتها الأخرى الفجة ضد الإسلاميين في مناطق أخرى كما سنبين بعد قليل؟!

والحال أن أحدا لم يصدق الشعارات التي بررت بها فرنسا تدخلها في مالي، إذ يعلم الجميع أن ما يجري هو محض دفاع عن بقايا الطموحات الاستعمارية في القارة الإفريقية، لكن الأمر بدا قابلا للتفهم في بعض الدوائر الرسمية تبعا لبعض الممارسات التي نسبت للمجموعات الإسلامية فيها، وما تنطوي عليه من تهديده لوحدة البلد، وهو ما يفسر التباين في وجهات النظر عربيا ودوليا؛ بين من أيد التدخل ودعمه بالمال، ومن أيده سياسيا، ومن رفضه؛ على تباين في لهجة الرفض بين بلد وآخر، مع العلم أن القطاعات الشعبية عربيا وإسلاميا لم تتردد في إدانة التدخل تبعا لقناعتها بحقيقة دوافعه.

اليوم تضيف فرنسا تحت حكم اليسار مزيدا من المواقف والهجمات على القوى الإسلامية تكشف حقيقة العقد المزمنة التي تتلبس فرنسا حيال الظاهرة الإسلامية بشكل عام، والتي لا تتجلى فقط داخل فرنسا عبر علمانية متطرفة، تصرُّ على مطاردة كل ما يمت إلى المظاهر الإسلامية بصلة، بل تمتد تاريخيا إلى مواقفها من قوى الإسلام السياسي. ونتذكر على هذا الصعيد موقفها من انقلاب العسكر على الديمقراطية في الجزائر مطلع التسعينات، كما نتذكر دعمها الكبير لسياسة تجفيف الينابيع (ينابيع التدين) التي اخترعها زين العابدين بن علي لمحاصرة النهضة وعموم الظاهرة الإسلامية في تونس.

ليس من العسير القول إن موقف الإسلاميين في السلطة والمعارضة من تدخلها في مالي قد ساهم في تعزيز مواقفها السلبية منهم، فكان أن اتخذت مواقف حدية ضدهم؛ في مصر وتونس وليبيا، بل وسوريا أيضا، رغم ظاهر تأييدها للثورة السورية.

من الطبيعي أن يذكرنا البعض هنا بموقف فرنسا من الثورة الليبية، وكيف ساهمت في دفع الناتو إلى التدخل، الأمر الذي لا يمكن النظر إليه بعيدا عن لغة المصالح بعدما وجدت فرنسا نفسها في خانة هامشية في ظل بقاء القذافي في السلطة، وبالطبع إثر استئثار بريطانيا وأمريكا وإيطاليا بمعظم الصفقات إثر تخلص القذافي من العقوبات الدولية.

لكن فرنسا لم تأل جهدا بعد ذلك في دعم القوى العلمانية في الساحة الليبية، وهي اليوم تتمتع على سبيل المثال برئيس وزراء صديق لها، فضلا عن صداقته الخاصة مع الصهيوني الفرنسي المعروف (برنار ليفي) الذي جعله بعض اليساريين العرب بمثابة كائن أسطوري يحرك الثورات العربية.

الآن، يشكو الإسلاميون في ليبيا (قال ذلك مراقب عام الإخوان هناك) من التهميش الذي يتعرضون له على يد رئيس الوزراء علي زيدان، الأمر الذي لا يمكن النظر إليه بعيدا عن الأصابع الفرنسية التي تتدخل بقوة في الساحة الليبية عبر التحالف الوطني بزعامة محمود جبريل.

الأحداث في تونس (بعد اغتيال شكري بلعيد) دفعت فرنسا إلى التكشير عن أنيابها بشكل لافت، فقد خرج وزير داخليتها بخطاب بالغ الفجاجة حيال ما يجري هناك، لم ينطوِ على استهداف للنهضة التي تمثل الشرعية، بل شمل الإسلاميين في مصر وليبيا أيضا.

مما قاله الوزير، إنه “يجب الوعي باستبداد الإسلاميين عن طريق الفكر الظلامي الذي يسعى لقمع المواطن التونسي بالحجاب”. وقال أيضا “علينا دعم القوى الديمقراطية كي لا تقع خيانة ثورة الياسمين”. وقال “دعم الفاشية الإسلامية يتنامى بشكل كبير. يجب أن نندد بهذه الظلامية التي يمثلها الإخوان المسلمون والسلفيون، بما أنها تشكل خطرا على دولة القانون والديمقراطية التي ناضل من أجلها الشعب الليبي والتونسي والمصري (لاحظ كيف جمع التجارب الثلاثة)..”. وأضاف قائلا إن “أملنا أن تفوز القوى العلمانية والديمقراطية التي تحمل قيم ثورة الياسمين في الانتخابات القادمة”.

كانت مواهب مصباح المتحدثة باسم حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد (وطد) قد قالت لفضائية فرانس 24 “أوجه ندائي لفرنسا التي تدعم الديمقراطية في مالي. فرنسا التي تحارب الإسلاميين في مالي؛ هذا هو الوقت المناسب للنظر إلى ما يحدث في تونس”، وهي دعوة سافرة للتدخل المباشر.

ولا شك أن تصريحات وزير الدفاع التونسي قد منحت المراقبين فرصة الحديث عن ملامح انقلاب بدعم فرنسي، حين قال إن الجيش “لا يتلقى أوامره من الحكومة”، وأنه يقف على مسافة واحدة من الجميع، مع أن الأصل أنه يتبع الحكومة الشرعية.

أضافت فرنسا إلى ذلك كله موقفا سلبيا جديدا من الثورة السورية على لسان الرئيس أولاند الذي قال إن الاتحاد الأوروبي “لن يرفع حظر الأسلحة عن المعارضة السورية”، ما دامت هناك إمكانية لتسوية الأزمة بالطرق السلمية. والسبب كما يعرف الجميع هو مخاوف وقوعها بيد الإسلاميين، والأهم خشية انتصار تجني ثماره القوى الإسلامية، بدل ترتيب وضع بديل لقوىً أخرى عبر حل سياسي لن يمانعوا في أن يتضمن بقاء الأسد، إذا كان البديل إسلاميا.

فرنسا في ضوء ذلك كله تغامر بعلاقات سيئة مع القوى الإسلامية، أكانت في السلطة أم في المعارضة، وهي تضيف ذلك إلى علاقتها المتوترة بالجالية الإسلامية في فرنسا، وعموم العالم الإسلامي (مواقفها من القضية الفلسطينية جزء من ذلك)، وهو ما سيؤدي دون شك إلى اشتباك أكبر معها، ربما تكون مالي مستنقعه الجديد الذي لا يستبعد مرقبون أن يكون بمثابة أفغانستان أخرى. ولا تسأل بعد ذلك عن تناقض مواقفها مع قيم الحرية والتعددية والديمقراطية التي ترفعها، فيما تستهدف علنا قوىً جاءت إلى السلطة من خلال صناديق الاقتراع.