أيهما الأهم: الدراسة أم الدين؟!

عابدة فضيل المؤيد العظم

لمّا تخرج ابني من المدرسة انتظر الناس مني أن أسير على نهجهم وأرسله إلى بلد بعيد لينال شهادة البكالوريوس من إحدى الجامعات المحترمة، وكانت مفاجأة بالغة لهم عندما عثرنا على جامعة جيدة (الدراسة فيها عن بعد) مكتبها هنا حيث نقيم وسجلناه بها. وبدل أن نتلقى التهاني تلقينا التعازي، لأن ابني خسر مزايا عظيمة ببقائه معنا من ضمنها أن يصبح رجلاً!! وحجتهم أن الغربة هي التي تصنع الرجال بما تكوي به بنونا من صنوف البلاء والعذاب وأنواع المعاناة، وبما تضطرهم للاستقلال عن ذويهم والاعتماد على أنفسهم في كافة أمورهم، فيتقوون ويصبحون أشاوس أشداء قادرين على خوض غمار الحياة. أما من عاش بين والديه في أسرة دافئة تحتضنه وتوفر له الحب والرعاية لا يكون رجلاً!؟

ولست أنكر أن بعض الظروف (كالاغتراب والعمل المبكر) تُسَرّع عملية تحول المرء من فتى يافع إلى رجل ناضج إن أُحسن استغلالها، إلا أنها لا تكفي وحدها، بل قد تكون عاملاً في فساد الشاب وانحرافه وبعده عن الطريق القويم، لما للبيئة المحيطة من تأثير كبير على النفس البشرية. والشاب الذي يلقى بعيداً وحيداً من أجل العلم يلعب به الشيطان -وإن حاول التمسك بدينه!- وإن أقل ما يصيبه "الانحراف الفكري" الذي ساد بين الشباب وانتشر، فنرى الشاب يحمل أفكاراً غريبة ينسبها للدين ويتقيد بها ويلزم الناس باتباعها وهي خطأ من أولها إلى آخرها... ولو كان الفتى بين أهله لانتبهوا لأفكاره وناقشوه فيها أولاً بأول فلا ينجرف مع التيار، ويحافظ على ملة إبراهيم حنيفاً.

والمشكلة "مدة الدراسة الطويلة" والتي تمتد لأكثر من أربع سنين، وهذه الزمن ليس بقليل، وهي فترة كافية جداً ليتسلط فيها رفقاء السوء على المغترب، والفتى في هذا العمر متحمس سهل الانقياد، ولذا فقد يخف إيمانه وتقل عباداته، هذا إن لم يعلمه أصدقاؤه التدخين، ويأخذوه إلى السينما، ويزينوا له المعاصي ويدلوه عليها.

ومن قديم كتبوا عن الابتعاث وخطره وَوُفي حقه من البحث، إلا أن الابتعاث إلى البلاد العربية صار يشكل خطراً مماثلاً لما كتب قديماً عن الابتعاث إلى البلاد الغربية، (كما زادت البلاد الغربية خطراً وسوءاً على أبنائنا)، والطالب المبتعث للدراسة يعلم أنه وحيد بلا رقيب، وهو شاب قوي الغريزة، والمغريات كثيرة سهلة المنال، والدعاة إليها لا يفترون، أفلا تضعف نفسه؟

وإن لم تضعف ألا يجاهدها جهاداً شاقاً الأمر الذي يعذبه ويعطله عن التحصيل والدراسة، فلِمَ أعرضه لمثل هذا الصراع إن توفرت له جامعة جيدة على مرآى من سمعي وبصري، ولِمَ أرميه لرفقاء السوء وأنا أقْدر على توجيهه نحو الخير؟

وحسبنا الرسول ص فإنه ما تُرك وحيداً حين مات والده، ولا رماه أهله في القفار ليكابد وحده الحياة، وإنما نشأ في بيت جده حتى إذا هلك كفله عمه واحتضنه ورباه ورعاه وشَغَّله في التجارة، وظل في حماه وما تُرك بلا ولي حتى تزوج، ولا ينبغي أن يعيش الشاب وحده بلا رقيب، ولا يكفي في الغربة الصديق، بل ينبغي أن يكون الشاب في كنف رجل ناضج (والد أو عم أو أستاذ أو شيخ...) ليوجهه ويعلمه وينصحه ويثقفه، وذلك الذي يصبح فيما بعد الرجل... والدلائل على ذلك كثيرة ولو قرأتم سير الصحابة لرأيتهم كيف عاشوا وهم صبية صغار في كنف قبائلهم وكم تعلموا منها من الفضائل والخلق الكريم وبهذا سادوا وكانوا الرجال.

ثم لماذا ننكر العواطف وهي أجل ما في الوجود؟ ألا يشتاق الوالدان لأبنائهما، والأولاد لوالديهما؟ لم أحرم ابني مني وأحرم نفسي منه ونحن أحياء؟ ما الضير في أن نبقى معاً وأن يشق ابني مستقبله الجامعي ونحن ننعم باجتماعنا الأسري؟ وبالحماية والأمان التي توفرها العائلة؟

والحقيقة أن الأفكار الغريبة بدأت تجد طريقها إلى رؤوس الناس، وها هم يقتنعون بها ويدافعون عنها، يريدون منا أن نرمي أبناءنا إلى الحياة وننخلع عنهم ونتركهم للتيار يعبث بهم، وهم يعلمون أن ابن الثامنة عشر في عصرنا ما يزال لين العود وإن كان كبير الجسم، يريدون منا أن نُفَضّل "الشهادة الجامعية" على "الدين"، وأن نقدم "التعلم" على "الخلق".

إننا بحاجة لإعادة ترتيب أفكارنا وصوغ آرائنا من جديد لتتناسب مع التغييرات السريعة التي تحدث في عوالمنا، وينبغي أن نخاف على أبنائنا ونفكر ملياً قبل ابتعاثهم، ونوازن بين المضار والمصالح، فإن تغلبت المصلحة هيأنا لهم الظروف ووفرنا لهم الرفيق الجيد والأستاذ الواعي، وجعلنا لهم رقيباً من أنفسهم ولا نتركهم هملاً أبداً .