العنف في محيط المؤسسات التربوية

مظاهره وأسبابه وسبل معالجته

محمد شركي

[email protected]

على إثر استفحال ظاهرة العنف في محيط المؤسسات التربوية في بلادنا ارتفعت العديد من الأصوات المحذرة من عواقبه ،الشيء الذي حذا بالوزارة الوصية للإسراع ببلاغ إدانة لهذه الظاهرة السلبية مع إعطاء تعليمات للجان قصد فتح تحقيقات في ما يروج على وسائل التواصل الاجتماعي من لقطات عنف مسجلة تتعلق بالأطراف التي تحتضنها المؤسسات التربوية من متعلمين ومربين سواء كانوا مدرسين أم إداريين . وتختلف المقاربات التي تتناول ظاهرة العنف في محيط المؤسسات التربوية ، وتختلف حولها وجهات النظر حسب اختلاف زوايا الرؤى واختلاف الاهتمامات . ومن المقاربات من يعزل هذه الظاهرة عن واقع المجتمع المحلي والعالمي، ويجعلها قاصرة على المؤسسات التربوية ، الشيء الذي يغيب حقيقتها أو جزءا مهما من هذه الحقيقة .

في البداية أود الوقوف وقفة لغوية عند لفظة " عنف " وهي من فعل عنف ـ بفتح العين وضم النون ـ وتضم عين لفظة عنف كما أنها تفتح وتكسر أيضا ، ولعل الذي جعل الاستعمال الرائج بين مستعملي اللغة العربية هو اللفظة المضمومة العين عوض غيرها نظرا لقوة الضمة المناسبة لدلالة هذه اللفظة . والعنف لغة هو نقيض الرفق ، ذلك أن العنف هو المعاملة بالشدة والقسوة والجفاء ، وعكس العنيف الرفيق الذي يتعامل بلطف ، ويعين وينفع كما تدل على ذلك لفظة رفق ومرفق . والمادة اللغوية للفظة رفق تجمع بين دلالات تفيد اللطف والعون والنفع وحسن الصنيع وحسن المعاشرة ، والمساعدة والمعاضدة ، ذلك أن الرفيق هو اللطيف ، وهو الصاحب ،و المعاشر والنافع والمعين ، والسهل المنال ، وتؤكد ذلك الاستعمالات اللغوية حيث يقال رفيق ورفيقة العمر للزوجين ، والجنس الرفيق أو اللطيف للنساء ويقابله الجنس العنيف أو الخشن ، ويقال للأمر السهل امرا رفق البغية ـ بفتح الراء والفاء ـ ، والمرفق ـ بكسر الميم وفتح الفاء ـ ما يرتفق به ، ـ وبفتح الميم وكسر الفاء ـ ما ينتفع به ، ـ وبفتح الميم والفاء معا ـ هو الوصل بين الساعد والعضد ـ ، وفي الذكر الحكيم : (( قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا )) في سياق الحديث عن موسى وأخيه هارون عليهما السلام ، فالمرفق يصل الساعد بالعضد ويكنى بهذين على العون لأن بهما يحصل ، والمساعدة من الساعد والمعاضدة من العضد والرفق ومن المرفق ،وكل ذلك يدل على النفع وعلى العون وحسن الصنيع وهي الرافقة . فمن خلال هذه الوقفة اللغوية يتبين أن العنف سلوك بشري يتمظهر من خلال شدة وقسوة المعاملة بين بني البشر ، ويقابله الرفق وهو سلوك يتمظهر من خلال لطف المعاملة . والعنف واللطف يأخذان شكلين : شكل مادي وآخر معنوي ، ويطلق المادي على ما تعلق بالاعتداء بجارحة اليد كما يطلق المعنوي بالاعتداء بجارحة اللسان أو بغير ذلك مما يعتبر مساسا بكرامة الإنسان . والعنف بنوعيه يتسبب للإنسان بالألم الجسدي والنفسي ، كما أن اللطف بنوعيه يسبب له اللذة الجسدية والنفسية . والأصل في العلاقة بين البشر التعامل باللطف ، والاستثناء أو الطارىء التعامل بالعنف .، ولهذا عندما يسود العنف بين البشر يكون ذلك مؤشرا على انحراف في السلوك البشري وخروجا عن الفطرة التي فطر الله عز وجل الناس عليها لا تبديل لخلق الله . والذين يعزلون ظاهرة العنف في محيط المؤسسات التربوية يتجاهلون انتقال هذه الظاهرة من المجتمع إلى مؤسساته المختلفة بما فيها التربوية ، لهذا لا بد من إطلالة على هذه الظاهرة في المجتمع قبل رصدها في مؤسساته التربوية . فظاهرة العنف في المجتمع يجب أن ترصد فيما هو إقليمي وفيما هو عالمي أيضا بعدما صيرت وسائل الاتصال العالم قرية صغيرة كما يقال كناية عن العلاقة الجدلية بين سكان كوكب الأرض ، وهي علاقة تأثر وتأثير ، وقد صارت أقوى من ذي قبل بسبب الثورة التكنولوجية خصوصا في مجال التواصل .وعندما نلقي نظرة على هذا العالم أو على هذه القرية نجد الثقافة الغالبة عليه هي ثقافة العنف حيث عرف هذا الكوكب في العصر الحديث حربين عالميتين سببهما ظهور تيارات إيديولوجية متطرفة فاشية ونازية تتبنى ثقافة العنف ، وانتهت الحرب العالمية الأخير بوضع لم يضع حدا للتيارات الإيديولوجية المتطرفة كما يزعم بل حلت محلها تيارات أخرى لم تتخل عن ثقافة العنف بل استخدمتها من أجل تبرير الهيمنة المعولمة . ومن مخلفات ونتائج الحربين العالميتين ظاهرة ممارسة المجتمعات القوية العنف على المجتمعات الضعيفة من خلال حركات احتلال بغرض نهب وسلب الخيرات والمقدرات في هذه المجتمعات الضعيفة ، والتي فاتها الركب التكنولوجي الذي أطغى المجتمعات القوية وجعلها عدوانية وشرهة . ولقد كان حظ المجتمعات العربية والإسلامية جد سيىء حيث كانت ضحية عنف المجتمعات الغربية المحتلة لأراضيها والناهبة لخيراتها . ومن نتائج تعنيف المجتمعات الغربية بالمجتمعات العربية والإسلامية استنبات الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي حيث توجد المقدسات الإسلامية . ومعلوم أن الكيان الصهيوني عبارة عن كيان ثقافته عنيفة باعتبار مرجعيته الدينية التي تقوم على أساس التعصب للعرق والجنس ، وهو كيان فرض نفسه بالعنف في أرض ليست أرضه وإنما ادعى ملكيتها بناء على تأويلات لنصوصه الدينية ، وهي محض أساطير كما وصفها الفيلسوف الفرنسي المسلم رجاء جارودي رحمه الله . ومعلوم أن المرجعية الدينية اليهودية تتبنى العنف من خلال حياة أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا يخوضون صراعات عنيفة لمواجهة عنف حكام زمانهم ، لهذا ترسخ في الذهنية اليهودية المتدينة العنف ، واتخذته طقسا من طقوس العبادة ، واستغلت الصهيونية، وهي حركة عنصرية لا تختلف عن الحركات العنصرية من نازية وفاشية هذا الطقس الديني ، ووظفته لاحتلال أرض الغير وممارسة العنف على أهلها . ووافقت ثقافة العنف في المجتمعات الغربية ثقافة العنف اليهودي الصهيوني فصارت العلاقة بين المجتمعات الغربية والمجتمعات العربية والإسلامية علاقة عنف سببها الاحتلال الغربي والصهيوني للأرض العربية والإسلامية . ولما كانت الثقافة اليهودية الصهيونية ذات نزعة عنيفة فإنه تعذر في العالم الحد من هذه الثقافة ، الشيء الذي ولد ردود أفعال من جنس العنف على العنف الصهيوني في المجتمعات العربية والإسلامية ، والذي اتخذ في بداية الأمر شكل حروب بين الكيانات العربية والكيان الصهيوني من خلال احتكاك الجيوش النظامية ثم انتهى الأمر إلى استسلام الجيوش العربية أمام القوة العسكرية الصهيونية المدعومة بالقوة العسكرية الغربية ، وحلول حركات المقاومة الشعبية محل هذه الجيوش المنهزمة . وأخذ العنف بين حركات المقاومة العربية والإسلامية وبين الكيان الصهيوني والكيانات الغربية منحى أشد عنفا .وهكذا صار الإنسان العربي والمسلم يرى في العنف وسيلة تخلص من العنف الصهيوني والغربي المسلط عليه ، ونشأت بذلك ثقافة العنف في الكيانات العربية والإسلامية ، وانتشرت في مختلف مؤسساتها بما فيها المؤسسات التربوية حيث تربى الناشئة . ومع تمادي ثقافة العنف الصهيوني والغربي المؤيد له أخذت ثقافة العنف في المجتمعات العربية الإسلامية منحى التطرف لمقابلة تطرف العنف المعادي ، وهكذا انتشر العنف بشكل واسع في كل أرجاء العالم ، وتبادلت الأطراف الممارسة له سواء في شكل أنظمة أو في شكل تنظيمات التهم فيما بينها ، ذلك أن كل طرف يحاول تبرير ثقافة العنف لديه ، وكانت النتيجة بطبيعة الحال هي هيمنة ثقافة العنف على الجميع مهما اختلفت مبرراتهم . ومع انتقال العنف من منطقة الشرق الأوسط حيث يوجد العنف الصهيوني وعنف المقاومة العربية الإسلامية المضاد له إلى بلاد الغرب المؤيدة للعنف الصهيوني اتسعت رقع هذا العنف فنقلت المجتمعات الغربية العنف مرة أخرى إلى منطقة الشرق الأوسط ، ووسعت نطاقه باحتلال العراق وأفغانستان على خلفية الرد على عنف الجماعات التي نقلته إلى عقر دارها . ومن تداعيات عنف المجتمعات الغربية باحتلال العراق وأفغانستان حدوث ثورات شعبية لما سمي ربيعا في البلاد العربية ، وهي ثورات تعكس ردة فعل الشعوب العربية ضد العنف الصهيوني والغربي المؤيد له ، وقد أخذت ردة الفعل هذه شكل ثورات على الأنظمة العربية المستسلمة للعنف الصهيوني والغربي المؤيدة والمكرسة له عن طريق الخضوع للمجتمعات الغربية . وأمام ثورات الشعوب العربية على أنظمتها تدخل الغرب لإنقاذ هذه الأنظمة الخاضعة أو المستسلمة له من خلال إجهاض هذه الثورات ، ومواجهتها بثورات مضادة تبنتها الأنظمة المنهارة ،الشيء الذي زاد من ضراوة العنف وكرسه حيث لجأت الثورات المضادة إلى العنف الشديد وغير المسبوق كما يحصل في مصر وسوريا واليمن وليبيا . واستفحل العنف في منطقة الشرق الأوسط وقد وظفت له كوقود النعرات العرقية والطائفية ليزداد استعارا ،كما وظفت عصابات إجرامية صنعت مخابراتيا من طرف الغرب لتزيد من شدة وقوة هذا العنف ، وقد بلغ مستويات غير مسبوقة ، واكتسح العالم بما في ذلك المجتمعات التي ظلت بعيدة عن العنف لمدد طويلة ، و الله أعلم بمدى انتشاره مستقبلا ما دامت ثقافة العنف عبارة عن عملة عالمية كثيرة الرواج في هذا العالم المضطرب .وإذا أردنا الحديث عن ظاهرة العنف في مؤسساتنا التربوية فلا بد من استحضار كل هذه المعطيات لأن ناشئتنا تعيش ظروف سيادة ظاهرة العنف في العالم بحيث لا يقدم لها الإعلام بشتى أشكاله وأساليبه سوى صور هذا العنف يوميا فتتشربه ، وتمارسه في حياتها اليومية داخل وخارج مؤسساتها التربوية . إن عصرنا أو الفترة التاريخية التي نمر بها هي فترة سيادة ثقافة العنف ، وإنسان هذا العصر لم يعد يعرف غير هذه الثقافة التي سوق لها الغرب وغذاها من خلال انسياقه وراء ثقافة العنف اليهودي الصهيوني دون أخذه في الاعتبار تداعيات هذه الثقافة على الأمن والسلم العالميين . وعندما نتأمل المواد الإعلامية المتداولة في مختلف وسائل الإعلام العالمية والمحلية نجد الطابع الغالب عليها هو تسويقها لأخبار العنف بكل أشكاله . فالإعلام المحلي لا يخلو يوميا من أنباء العنف الاجتماعي بشتى الطرق حتى أن المعاملات السائدة في المجتمع صارت عبارة عن عنف شمل حتى المؤسسات التشريعية التي ينقل عنفها إعلاميا ، وفي مختلف المؤسسات وعلى رأسها مؤسسة الأسرة التي صار أعضاؤها يتداولون العنف بينهم ، وينقله الإعلام في شكل جرائم قتل واعتداء بين أطراف الأسر الواحدة وفي إطار الجوار والمواطنة ، وبين أطراف المؤسسات الاجتماعية الواحدة . ولا تستثنى المؤسسات التربوية من ذلك ، وهي تعرف عنفها الخاص بها على غرار باقي المؤسسات الأخرى . ومما يميز العنف السائد في المؤسسات التربوية تأثره بالعلاقات الرابطة بين أطرافها من متعلمين ومربين . فكما أن العنف ينشأ في مؤسسات الأسرة بسبب الصراع الناشىء عن احتكاك أفرادها ببعضهم ، وصراعاتهم على الظفر بامتيازات مادية أو معنوية ، فإنه ينشأ أيضا في مؤسسة التربية أو المدرسة بسبب الصراع الناشىء عن احتكاك أطرافها ببعضهم وصراعهم حول الامتيازات المادية والمعنوية المتعلقة بقطاع التربية من نقط ونتائج وما تفضي إليه من مآلات . ويبدو الصراع في محيط المؤسسات التربوية صورة مصغرة للصراع في عالم يتنافس أفراده على الظفر بالامتيازات بواسطة ثقافة العنف .وكما أنه لا حل لثقافة العنف إلا بحلول ثقافة الرفق ، وهي ثقافة تقوم أساسا على اللطف المؤسس على النفع والعون والمساعدة والمعاضدة وحسن الصنيع ، فإنه لا يمكن محاصرة العنف في محيط المؤسسات التربوية عن طريق المقاربات الزجرية ،وهي عنف في حد ذاتها بل لا بد من إعادة الثقة إلى نفوس المراهنين من المتعلمين على ثقافة العنف من أجل التخلي عنها نحو ثقافة الرفق ، ولا يتم ذلك إلا بوجود ضمانات تضمن النفع المتبادل والاستفادة من الامتيازات بشكل عادل . ومعلوم أن الرغبة في النجاح ـ وهو سفينة النجاة بالنسبة لفئة المتعلمين ـ هي الدافع وراء الرغبة في النقط ، وعندما تخيب هذه الرغبة يفكر المتعلمون في ردة الفعل السلبية وهي ممارسة العنف على المربين على اختلاف تخصصاتهم وعلى بعضهم البعض . ولو تتبعنا فئات المتعلمين الممارسة للعنف بشكل كبير فسنجدها الفئة المتعثرة في دراستها ، واليائسة من نفسها ومن الظفر بما يخوله النجاح لها في الدراسة من امتيازات تكون ضمان الاستقرار المادي والمعنوي . وطالما صاحب الشعور بالخوف والقلق من ضياع هذا الاستقرار ، فإن النتيجة المباشرة هي الإقبال على العنف بنوعية المادي والمعنوي في محيط المؤسسات التربوية ، وانتشاره واتساع رقعته ، وهو واقع حالنا مع شديد الأسف والحسرة . والمؤسف أن تتعاطى الجهات المسؤولة عن قطاع التربية مع ظاهرة العنف المستشرية بأساليب غير مجدية وبمراهم لا تعالج أعماق الجرح الغائر النازف . ولا بد من حضور النوايا الجادة من أجل تظاهرة وطنية جادة وفعالة ، ولماذا لا تكون عالمية لاستبدال ثقافة العنف بثقافة الرفق في كل مؤسسات المجتمع الإنساني من أجل إخراج البشرية من وضعية خطيرة ومزرية توشك أن تهدم أركان العالم برمته إذا لم يتداركه عقلاؤه وحكماؤه . وطالما ساد هذا العالم دعاة ثقافة العنف فإن سفينته لن تصل أبدا إلى بر الأمان.