كام هادئ، على صفيح ساخن!

نبيل البرادعي

المتتبع لمسارات الثورة ومواقف القوى الإقليمية والدولية منها، وتعاطي معارضتنا الوطنية مع هذه المواقف، لا بد أن يصيبه الكثير من الحيرة واللبس، وربما الإحباط واليأس من كثرة المفارقات التي يراها.

وسأحاول هنا أن أتحدث بشكل مبسط لا فلسفة فيه ولا عموميات، فالنظام وحلفاؤه الإقليميون والدوليون قد أفلحوا إلى حد بعيد في تحويل هذه الثورة العظيمة المباركة إلى ما يُشبه الفتنة التي يحار فيها الحليم، ويستغلق فهمها على الذكي الأريب.

لنلاحظ الأمور الواضحة التالية:

طوال الأشهر العشرين الماضية، كانت روسيا تُصر أن الحل يجب أن يكون في أيدي السوريين أنفسهم، وأنها لا تدافع عن النظام بحد ذاته، بل تنظر إلى مستقبل ووحدة سوريا. ومن المعروف والطبيعي أن هذا الكلام هو ذر للرماد في العيون لأن كل دولة إنما تبحث عن مصالحها أولاً وقبل كل شيء. وهو أمر مفهوم وينبغي على أي سياسي أن يتعامل معه بحكمة وبحس وطني صادق وحصيف.   

ولكن حتى بمقياس المصالح الروسية في سوريا، يتساءل المرء: ألم يكن بوسع روسيا أن تتبع سياسة أكثر فاعلية وحكمة وهي التي تمتلك على الأرض السورية ما يمكنها من معرفة دقائق الأمور، ومن الاستنتاج بأن هذا النظام لا يمكن استمراره بأي شكل من الأشكال؟ وكيف فاتها أن تستدرك موقفها الانتحاري هذا في دعم نظام محكوم عليه بالغرق في بحر الدماء التي سفكها؟

يتساءل المرء مثلاً: لماذا لم تضع موسكو ثقلها خلف فصائل معارضة مقربة منها كهيئة التنسيق مثلاً، بحيث تفرض على النظام الدخول في حوار فعال وحقيقي ومتكافئ مع هيئة التنسيق للوصول إلى حل يؤدي إلى انتقال السلطة بشكل سلمي؟ وكيف يمكن للمرء أن يفهم أنها لم تستطع التدخل حتى لإطلاق سراح مناضل كعبد العزيز الخير، وقد اعتُقل بعد عودته من موسكو نفسها!!؟؟ أصحيح أنها لا تملك أن تفرض على النظام خيارات فعلية من شأنها أن تمنح أصدقاءها في هيئة التنسيق (وتمنحها هي أيضاً) مصداقية على الأرض السورية؟ أما كانت شعبية ومصداقية هيئة التنسيق ستكون أفضل بكثير لو أنها استطاعت أن تفرض خيارات سلمية على النظام؟ ألم يكن من شأن موقف الروس أن يحظى ببعض التفهم (إن لم نقل الاحترام) في الشارع السوري لو أن موسكو استطاعت وقف آلة القتل وبدء عملية سياسية تؤدي إلى انتقال سلمي للسلطة؟ فلماذا لم تقم موسكو بذلك وهي التي تملك بيدها أقوى الأوراق، من وقف توريد السلاح والعتاد للنظام، إلى وقف استخدام الفيتو لدعمه في الأمم المتحدة؟ أهو مجرد الجمود والغباء المعهودين في السياسة الروسية أم أن هناك أسباباً أخرى خلف هذا الموقف؟

وبالمقابل: هل قامت هيئة التنسيق ووفودها العديدة التي زارت موسكو بإثارة هذا الموضوع مع الروس، والتساؤل عن سر موقفهم الغريب هذا؟ أي سر عدم دعمهم حتى للتيار السياسي الذي من شأنه أن يحافظ على مصالحهم ويُجنب سوريا ما حدث لها من دمار خلال هذين العامين؟ وإن كانت هيئة التنسيق قد لاحظت ذلك ويئست من الموقف الروسي، فلماذا لم تجاهر بذلك وتصارح شعبها بهذا الموقف المريب؟ 

وفي مقابل الموقف الروسي، دعونا نحلل موقف المعسكر الآخر، الذي يزعم دعم الثورة السورية وصداقة الشعب السوري! كيف يمكن مثلاً أن نفهم كل تلك الضغوط التي مورست قبل شهرين لتغييب المجلس الوطني والخروج بتشكيل جديد هو الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة بدعم أمريكي غربي خليجي، والكلام الكثير عن توحيد كافة أطياف المعارضة في ظله، ووضع كافة الفصائل العسكرية تحت مظلته، ثم القيام بعد ذلك بتشكيل مجلس عسكري جديد في غياب هذا الائتلاف؟؟

وكيف يمكن أيضاً أن نفهم استمرار هذه القوى الإقليمية والدولية بتقديم الدعم المادي والتسليحي لفصائل عسكرية وسياسية مختلفة على الأرض السورية بمعزل عن الائتلاف؟ ألا يشكل ذلك إضعافاً لهذا الائتلاف الذي يزعم أصدقاء الشعب السوري أنهم يعتبرونه الممثل للشعب السوري؟ فلماذا يتجاوزون هذا الممثل الشرعي ويمدون أذرعتهم (وأذرعة مخابراتهم) للعبث بالداخل السوري، وشراء الولاءات والعسكر؟

ترى ألا تمتلك الولايات المتحدة والقوى الغربية - التي تسرح أجهزتها وتمرح اليوم على الأرض السورية - ما يكفي من المعلومات التي تؤكد أن هذه السياسة إنما تأكل من مصداقية وشعبية وتمثيل الائتلاف الوطني على أرض الواقع الميداني، وتسمح بتوسع وانتشار الظواهر الأخرى المتطرفة التي يزعمون أنها إرهابية ويحذرون من أجنداتها؟  

وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك بالتأكيد، فلماذا يصمت الائتلاف الوطني عن مثل هذه الممارسات القاتلة التي تزري بمكانته وتمثيله ومصداقيته على الأرض السورية؟ أين هم شرفاء الائتلاف ومناضلوه ورجالاته؟

إنني لا أفهم مثلاً كيف لا يجد بعض أطراف الائتلاف مساحةً للحوار واللقاء مع أبناء وطنهم وقضيتهم من قادة هيئة التنسيق لمجرد أن للهيئة رؤية خاصة في كيفية مواجهة وإسقاط هذا النظام، بينما يجدون مساحة واسعة للحوار والتنسيق مع السفير الأمريكي السابق الذي كان "شيف" الطبخة التي حدثت في الدوحة؟ بل ربما مع من هم أعتى منه عداءً للعرب والمسلمين ولقضايا الأمة، من أمثال الصهيوني جوزيف ليبرمان؟

هذه أسئلة يجب على الشرفاء على امتداد ساحة الوطن، وخاصة في تشكيلات المعارضة كلها، أن يجيبوا عنها بحس عالٍ من الوطنية والتجرد والصدق. وذلك تجنباً للمنزلقات الخطيرة التي دخلت بها سوريا أو تكاد.

تشير الكثير من الدلائل إلى أن الرؤية الأمريكية لمستقبل سوريا (الحريصة دوماً على أمن ومستقبل إسرائيل) تستهدف إقامة نظام عسكري مُختَرَق، ربما تنازلَ وأقام ديمقراطية شكلية لا لون لها ولا رائحة، مع ترك البلد نهباً للعصابات المسلحة بحيث نصبح كأفغانستان أو العراق.. نظامٍ يعيش معزولاً في منطقة خضراء، ويحارب قوى متطرفة تمارس التفجير والقتل بحجة عمالة النظام للغرب! بالإضافة إلى حوادث العنف الطائفي التي يسهل هندستها وتغذيتها بعد كل ما حدث، في حين تتولى الشركات الغربية والطبقة العسكرية المتحكمة بقوة السلاح الاستيلاء على مقدرات البلاد بحجة إعادة الإعمار، والاستثمار وغير ذلك. (وهذا بالضبط ما يحصل في العراق الآن).

والحل؟

نرى أن لا حل إلاّ بأن ينهض الشرفاء الوطنيون الأغيار في الائتلاف الوطني بالضغط بكل السبل لتوسيع الائتلاف بحيث يضم جبهة التنسيق وغيرها من الأطراف غير الممثلة فيه، توحيداً حقيقياً لا تتقاذفه الولاءات الخارجية، والطلب من كافة الدول الإقليمية والدولية – إن كانت جادة في دعم الشعب السوري – بأن تجعل كل قرش تدفعه يمر عبر الائتلاف الوطني، وأن تتعاهد أطراف الائتلاف جميعاً على العودة إلى الشعب وإلى الحراك الشعبي الداخلي بعد طول تغربٍ وبحثٍ في كواليس السياسة الدولية، وعلى فضح أي ممارسة إقليمية أو أجنبية تحاول شراء نفوذ لها داخل سوريا، وفضح أهدافها وخلفياتها وأشخاصها ومموليها، مع وضع آلية شفافة وواضحة ومحكمة لكيفية صرف المساعدات الإقليمية والدولية، بحيث تطلع عليها كافة القوى الممثلة في الائتلاف (إن تعذر إطلاع الشعب كله). وأن يمارس الائتلاف مهمة الاتصال بكافة الدول شرقاً وغرباً على قدم المساواة للحوار باسم سوريا الوطن.

إن شعبنا ما زال في طور الثورة، ولم يستكن للاستراحة والهدوء بعد.. وهو قادر اليوم على إفشال المخططات التي تريد الشر بوطنه ومستقبله إذا ما اتضحت لديه الصورة، وتوفرت له القيادة الوطنية الصادقة المخلصة.

مهماتٌ صعبة ومتشعبة.. غير أن سوريا ودماء من ضحوا لأجلها تستحق مواجهتها بما ينبغي من صدق ووطنية وتجرد!