نريدك يا غبطة البطريرك لكل السوريين

د. حازم نهار

خاص كلنا شركاء-24/12/2012

وجَّه غبطة البطريرك يوحنا العاشر، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، الرسالة الرعائية الميلادية للعام 2012، ولولا اسمه وصفته في الرسالة لقلت في وصفها إنها رسالة يمكن أن يوجِّهها أي رجل دين مسيحي إلى المسيحيين في أي مكان من العالم، بل إنها تصلح لأن تُتلى في أي زمن من الأزمان، وتنفع أن تكون رسالة موجَّهة للمسيحيين في روما في القرن السادس عشر.

بدأ غبطته الرسالة بالحديث عن الظروف العصيبة التي تأتي فيها الأعياد، والتي جاء في طليعتها –حسب ما يرى غبطته- وفاة البطريرك أغناطيوس الرابع، فهو على ما يبدو الحدث الأهم خلال العام 2012. ثم يأتي بعده الحدث الثاني في الأهمية، وهو معاناة "كنيسته" -على حد تعبيره- من "الأوضاع المأسوية التي يعيشها شعبنا من جراء العنف والاضطراب الذي يسود منطقتنا"، لنكتشف بعدها في سياق الرسالة أن "الشعب" الذي يخصّه غبطته بالحديث هو "الشعب المسيحي"، إذ لا نلمح طوال الرسالة الرعائية ذكراً أو تلميحاً لما يسمى "الشعب السوري" أو "الوطن السوري"، وكأن المسيحيين في سورية والمشرق لا ينتمون إلا للكنيسة وليسوا جزءاً من شعب سورية، بل لكأنهم يعيشون في الفراغ وخارج التاريخ.

يمتدح غبطته المسيحيين ويشكرهم في خضم هذه الأحداث على المواقف الثلاثة التي ظهرت منهم: التعزية بالفقيد الكبير (غبطة البطريرك هزيم)؛ الصلاة والصوم والرجاء في الفترة الفاصلة قبل الانتخاب؛ وأخيراً، في الفرح والحبور والسلام الذي ظهر بعد انتخابه. يذكرني ذلك بالتلفزيون السوري الذي يعرض أحيانًا برنامجا عن آخر عروض الأزياء أو عن حياة التماسيح في الأمازون، أو عن طول سيقان اللقلق، في الوقت الذي يكون فيه العالم كله مشغولاً بحدث استثنائي أو بقضية مصيرية يتوقف عليهما أرواح البشر ومستقبل البلاد.

لا يتحدث غبطته عن أبناء الوطن ومعاناتهم في هذه اللحظة العصيبة، بل عن أبناء الكنيسة وحسب "يأتي إلينا هذا العيد وكثيرٌ من أبناء كنيستنا مشردون، بعيداً عن بيوتهم، يعانون الكثير. واجبنا كأخوةٍ لهم أن نعضدهم ونواسيهم، ليس فقط بالأموال والإعانة المادية الضرورية، بل أيضاً بالاستفقاد والحنان والمحبة". هناك الكثير الكثير يا غبطة البطريرك من البشر المشردين، بل أيضاً من الجرحى والجائعين والباحثين عن مأوى من البرد والقتل، في دمشق وريفها، وفي حلب وحمص ودرعا ودير الزور، وسائر أرجاء الوطن، ولكنهم ليسوا من أبناء الكنيسة. إنهم أبناء الوطن.. أبناء سورية، وهم يستحقون من غبطتك كلمة طيبة... هل الكلمة الطيبة صعبة إلى هذه الدرجة؟! لعلّ غبطته وجد أن انتقاد "حالة البذخ"، التي يستقبل بها البعض من أبناء الكنيسة عيدهم، أكثر أهمية من تلك الكلمة الطيبة.

اللفتة الوحيدة لغبطته كانت حول العيد والحوار مع المسلمين بقصد "التعايش المشترك"، إذ يتابع غبطته قائلاً "فلنعيِّد أيضاً مع إخوتنا المسلمين الذين يُعلون مقام السيد المسيح ويقرّون بميلاده البتولي من مريم العذراء كما شاء الله. عيدنا إذاً مشترك معهم إذا عرفنا أن نحاورهم حوار الحياة والتعايش والاتفاق حول المفاهيم التي تجمعنا في ديننا ودنيانا". نشعر هنا وكأنَّ المشكلة اليوم في سورية هي وجود خلافٍ بين المسلمين والمسيحيين، وليست بين ظالم ومظلوم، بين قاتل وضحايا، بين مستبد أرعن وجموع تريد أن تنتمي للحياة كسائر خلق الله. أو لعل ّ غبطته يرى أن خروج السوريين في المظاهرات كان رفضاً لهذا "التعايش المشترك"، وربما كان ذلك بسبب خروجهم من الجوامع وترديدهم صيحات "الله أكبر"، مع أنَّهم يقيناً ما كانوا ليتردَّدوا لحظة واحدة في الخروج من الكنائس لو أتيح الأمر لهم.

فالسوريون لم يناقشوا ديانة أحد بل تعاملوا مع موقفه الأخلاقي-الوطني وحسب، وهم نظروا لبعض رجال الدين الإسلامي (كالبوطي وأحمد حسون وغيرهم) نظرة استهجان في الحد الأدنى، ولم يشكِّل إسلامهم رادعاً عن نقدهم والتطاول عليهم، وما نسمعه اليوم من بعض الأصوات النشاز لا قيمة له في الاتجاه العام، ولا تأثير له على الحقيقة التي يعرفها العالم كله.

هناك فرق كبير يا غبطة البطريرك بين الانطلاق من ساحة الضمير و بين الانطلاق من ساحة الخوف في مقاربة الأمور، وكثيراً ما لعب الخوف دوراً سلبياً ومضلِّلاً في تقليص مساحة الضمير وميدان الموقف الصائب، وربما لأجل ذلك خاطب أليشع النبي تلميذه "جحزي" الخائف جداً: "لا تخف، لأن الذين معنا أكثر من الذين معهم". نعم إن الذين يرون آلام السوريين ونبالة ما يناضلون من أجله اليوم هم أكثر بكثير من الذين ما زالوا محاصرين بالخوف والتردد وقلة الحيلة.

يدعو غبطته المسيحيين في ختام الرسالة  كي "تكون الأيدي معاً في خدمة الكنيسة"، وربما نسي أن يذكرهم بقول الإنجيل "طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار، وفي طريق الخطاة لم يقف"، أو يدعو الكنيسة لتكون في خدمة الوطن، وكل أبناء الوطن، فهذا أقرب الطرق إلى الله وأجداها نفعاً لعباده.

ليس بهذه الرسالة الرعائية "نكون شهوداً للرب في العالم" يا غبطة البطريرك، وما هكذا يتمجَّد الله في الإنسان الذي أحبه. فالحيادية والبرود وإغماض العينين عن الواقع لا يرضيان الرب، وأبناء الكنيسة لن يكونوا شهودًا للرب عندما يتم تشجيعهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، على التصرف وكأنَّهم خارج الوطن أو عندما يتم اختزال إخوتهم في الوطن إلى مجموعة عابرة من المتطرفين.

باسل شحادة، وأمثاله، كانوا حقاً شهوداً للرب في العالم، لكنهم ينتظرون الاعتراف بهم بأنهم من أنبل أبناء الكنيسة... والوطن أيضاً. هؤلاء هم من يُقال لهم "طوبى لعيونكم لأنها تبصر، ولآذانكم لأنها تسمع".

ما نحتاجه يا غبطة البطريرك هو تغيير توسيع زاوية الرؤية، فلننظر لمسيحيّتنا (وإسلامنا أيضاً) بمنظار الوطن، لا أن ننظر للوطن بمقياس هواجسنا وأوهامنا حول أنفسنا والآخرين، فهناك فرق كبير، بل وكبير جداً، بين رؤية الوطن بدلالة الكنيسة، وبين رؤية الكنيسة بدلالة الوطن.

إذ بدون توسيع مساحة النظر سيكون الوطن مجرّد "شقف" يتمّ جمعها بغراء هشّ، وسيكون خطابنا وقتها مجرد مجاملاتٍ فارغة ومصطنعة حول "التعايش المشترك" بين المسلمين والمسيحيين، أو فيما بين المذاهب المسيحية ذاتها، أو المذاهب الإسلامية، أو بين العرب والكورد والآثوريين والتركمان والأرمن والشركس، وهو الخطاب الذي يعني في العمق أننا لا نستحق تعبير "الشعب السوري" وغير جديرين بالحياة.

الشدائد كثيرة اليوم على الوطن، وعلى مستقبل أبنائه جميعاً، مسلمين ومسيحيين، ومن كل ألوان الطيف الديني والإثني، لكنها زائلة إذا ما آمنا بالوطن وبوحدة شعبنا، فالله –على حد تعبير البابا شنودة الثالث- "لا يمنع الشِّدة عن أولاده ولا يمنع التجربة والضيقة، ولكنه يعطى انتصاراً
على الشدائد".

خلاصة القول يا غبطة البطريرك: لقد كان البابا شنودة لكل المصريين، ونريدك لكل السوريين.