هل التصويت حلال؟

محمد حايك

أتلانتا جورجيا

كما أن الإنسان هو نتيجة أحداث الماضي التي عصفت به، وعرجات الزمان التي خَطت اثارها عليه .. والثورات التي لا تعرف الرجوع هي نتيجة صرخات الأطفال والثكالى، وآهات المقهورين المظلومين، وفراغ معدة الجيّاع التي لم تعد تفرق بين طعم الموت والحياة، بل لم تعد ترى الحياة إلا من خلال طلب الموت، إنها غَضْبَة من رأى خيوط الحياة تبزغ خلف شعاع الموت من خلال ظلام دامس طويل يلوح ببريق الأمل، إنها رقصات ثوار على أزيز الرصاص وطلقات المدافع لن تهدأ حتى تنتهي الأغنية .. فإن مستقبل الأمم هو نتيجة صراخات الصادقين المخلصين من رجال الدين والمفكرين والفلاسفة، فإما ترفع بالأمة إلى حضارة مرموقة رفيعة، أو تهوي بها في مزابل التاريخ .. فقانون الكون ثابت يقول: إن لكل فعل ردة فعل.

من المواضيع التي قرأت عنها وحيرتني في عقلية بعض المسلمين سؤال طرح: "هل التصويت حلال؟".  أقول وهل الخروج من العبودية يحتاج إلى فتوى؟ وهل يُستعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ المشكلة ليست فقط في العقلية التي تسأل هذا السؤال، بل بالمرجعية الدينية التي تحاول أن تربط حياة الناس العامة والخاصة بفتاويها، وتقرر حياة الإنسان من المهد إلى اللحد، وكأن الإنسان صار دمية بيد من يحفظ بعض آيات القرآن، وقد لا يفقه أمور دنياه.  هذه المرجعية لم تقدم الجواب الصحيح.  إنها لم ترشد الناس لِـتفكر لنفسها في أمر لم يحدده القرآن في أمر دنياها، المثل الصيني يقول: "لا تعطني سمكة، بل علمني كيف أصطاد".  القرآن لم يحدد تفاصيل اختيار الحاكم، بل ترك هذا الأمر للناس ليختاروا ما يناسبهم حسب زمانهم، والرسول عليه السلام ترك حصر الخلافة لمن بعده، فهو شأنهم.  فليجتهدوا له بما يناسبهم على مر الزمان.  فاختيار الحاكم في الإسلام نظام يجري عليه قانون التطور لما ينفع الفرد والأمة حسب الزمان والمكان وحضارة الإنسان. 

التصويت ليس لحمة تؤكل حتى يُسأل عـنه رجل الدين إن كان حلالاً أم حراماً، بل هـو نظام دولة يُعمر.  فحق كل فرد في المعمورة أن يختار ممثلاً وقائداً يمثل المعمورة التي يعيش فيها.  وما أدرى أكثر رجال الدين في وقتنا الحاضر بشؤون العامة وفقه السياسة.  فأكثرهم مفصولين عن أكثر شؤون الحياة، تأتيهم رواتبهم الشهرية من حكوماتهم ليقبعوا في معابدهم.  فقليل منهم من تعمق في علوم الإنسان وعلوم السياسة، أو تعلم صنعة أو احتك مع الناس في شؤون الحياة.  فالرجل الذي لا يعلم أمور دنياه، لا يُسأل عنها.  والعالم هو الذي يجمع علوم الدين والدنيا، فلا دين بدون دنيا، والله خلق الدنيا قبل أن ينزل دينه. 

الذي أثارني في هذا السؤال عقلية السائل.  هذا السُؤال يشابه سؤال أخر: هل الخروج من العبودية حلال؟ وهل هذا سؤال يُسأل؟.  فسائل هذا السؤال وإن خرج جسده من العبودية التي وصلت إليه من خلال تاريخ أجداده، فعقله مازال متعلقـاً بها لأنه لن يستطيع أن يخرج منها بدون إذن من رَجل دينه الذي عاش معه ذلك التاريخ.  كالطفل الصغير لا يستطيع العيش بدون مساعدة والديه.  فهو مشلول العقل قبل الجسد لأنه لم يرَ طعم الحرية بل سمع عنها.  إنه لا يدري أنه يقبع في سجن قديم من الأفكار منها السمين ومنها ما غث.  فهذا ما عرفه منذ أن رأى نور الحياة.

عندما دخلت مكبرات الصوت في مساجد الهند لأول مرة، أصدر بعض رجال هذه المرجعية الدينية التي لا تفقه أمور دنياها فتاوى مفادها أنه لا يجوز إدخال مكبرات الصوت في المساجد، لأنه بدعة.  وعندما بدأت الثورة الصناعية وظهرت الأسلحة الحديثة، صدرت فتاوي أنه لا يجوز القتال إلا بالسيف والرمح لأن غيره يخالف ما كان عليه رسول الله والسلف الصالح.  وعندما مات عباس بن فرناس محاولاً الطيران، سأل الناس علماء دينهم هل مات عباس شهيداً؟ لقد كان من الأولى لتلك المرجعية الدينية أن تقول: إن هذا الأمر مرده إلى الله فهو يعتمد على نية عباس، فإن كان هَمه أن ينهض بالإنسان ليحلق في السماء حتى ينفذ من أقطار السماوات والأرض فهو شهيد.  ولكن كل ما يهمكم أيها الناس هو أن تكملوا ما بدأ فيه عباس حتى تخترقوا الفضاء، فهي مهمة ولاها الخالق للإنسان ليبحر في ملكوت السماوات والأرض ويكتشف قوانينها ليسخرها لنفسه }يَـٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا۟ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَـٰوَ‌ٰتِ وَٱلْأَرْضِ فَٱنفُذُوا۟، لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَـٰنٍۢ{ الرحمن:33.

هذا السؤال عن شرعية التصويت ينطوي عليه مفهوم أخر، أن العقلية التي تطرح هذا السؤال تعتقد أن الأصل في الإسلام هو الديكتاتورية، أي نظام الحاكم الواحد الذي يورث خلافة الحكم لأبناء الحاكم سواء للعاقل منهم أو المعتوه.  والعاقل منهم سيفسد بمجرد استلامه للسلطة المطلقة، إلا إذا كان في قلبه مخافة الله وإيمان لا يتزعزع بيوم الحساب، فلم تعد تهمه الدنيا وبريقها. فهذا النوع من الناس عنده ضمير حي يحاسب به نفسه ليل نهار.  والضمير اسم لشيء لم أجد له أثراً في وقتنا، ولكن سمعت عنه في أشخاص قليلة مرت عبر التاريخ منهم الأنبياء وقليل ممن صنفوا بالصالحين.  هذا النوع من الناس نادر، وإن وجد فليس عنده طموح للسلطة وللأضواء.  فإن كان الخليفة عاقلاً دارياً يخاف الله ويحب وطنه وشعبه، فإن أهل البلد من المحظوظين، وإن كان غير ذلك وهم الغالبية العظمى، فالويل لهم ثم الويل لهم.  فهو البلد، والبلد ملكه، وكل من فيها يعمل لخدمته، فهو الأب والأم والروح والبدن .. وقد يسجد له المنافقون.  فكل ما يهمه جمع المال والبحث عن الملذات والشهوات حتى يموت اقتصاد البلد ويعث فيه الفقر والفساد.  هذا النوع من الحكام ليس أهلاً للحكم، ولا يفقه ما معنى إدارة البلاد إلا من خلال منفعته الشخصية له ولعصابته عن طريق إذلال شعبه.  فهو لا يصلح إلا لإدارة مزرعة يرعى فيها المواشي.  كمن يربح مئات الملايين من ورقة اليانصيب فلا يتملكه عقله فيبدأ بالصرف والبذخ على القصور والنساء والخمور فيعلن إفلاسه بعد فترة من الزمن، ويرجع من حيث بدأ.  هذا إن كان محظوظاً، وقد ينتهي به الأمر في قاعات القضاء، وقد يشرد في الشوارع، وقد يموت من تناول الخمور والمخدرات، فهذا ما كسبته يداه.  وكذلك الحاكم الفاسد قد ينتهي به الأمر بالقتل أو السجن بسبب فساد إدارته لبلده وظلمه لشعبه.

أحداث التاريخ تقول إن انتخاب الحاكم عن طريق التصويت ولفترة معينة من الزمن داخل نظام يجري على مبدأ النقد والتوازن، هو أقل ضرراً من الخلافة المتوارثة للحاكم المطلق.  لأن تطبيق مبدأ النقد والتوازن والجرح والتعديل يهدي إلى العدل، وإلى حفظ حقوق الإنسان }وَلَوْلَا دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍۢ لَّفَسَدَتِ ٱلْأَرْضُ{ البقرة:251.  فالعدل يرفع الأمم، ولقد قيل «إن الله ينصر الدولة الكافرة العادلة على الدولة المؤمنة الظالمة».  والأديان تأمر بالعدل لأنه مبدأ جوهري لنهوض الأمم، فالقرآن يقول }إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلْإِحْسَـانِ{ النحل:90.

ومرة انتقدت حدثاً فاسداً في أحد المراكز الدينية، فجاوبني أحد حكامهاً متهجماً يكمن الخوف في نبرات صوته على كرسي حكمه: "هل تريد مقعداً مع زمرة الحاكمين؟"، هذه عقلية لم تفهم مبدأ النقد والتوازن رغم أنها تعيش في بلاد الحريات،  فهي عقلية مازالت الديكتاتورية وحب السلطة تَعشُ في جسدها.  إنها عقلية لا تستسيغ معنى الانتقاد لأنها هاجرت من بيئة لا تستطيع فيها انتقاد الحاكم أو رب العمل أو الأب والأم، فكل ما تعرفه هو السمع والطاعة.  لقد خرجت من بيئة تقبل أقدام من فوقها وترفس أبدان من تحتها.  فلا انتقاد ولا تعقيب، وبدون انتقاد تتراكم الأخطاء.

قرأت بحثاً في عام 2000 يحصي الخواص المشتركة للمدراء المشهورين في أمريكا، فكان العامل الأول المشترك فيما بينهم أنهم يحبون سماع الانتقاد.  فالانتقاد يرشد الإدارة إلى أماكن الضعف داخل المنظمة.  ومن خلال تجربتي الشخصية أستطيع أن أستشف فيما إذا كان المدير سيكون ناجحاً في عمله منذ البداية، وذلك إذا وقف في أول اجتماع له مع الموظفين وقال: إن باب مكتبي مفتوح دائماً لسماع أي رأي أو اقتراح أو نقد مهما قل شأنه حتى ولو كنت في فترة تناول طعام الغذاء.  فمن ذلك أعلم أن هذا المدير يهمه أمر الشركة وأمر الموظفين ويأخذ الأمر بجدية حتى في صغائر الأمور.

لو كان هناك انتخابات لحكام ذلك المركز الديني، لأخذ ذلك الحاكم الأمر بجدية خوفاً من أن يسقط في الانتخابات المقبلة، ولكنه يعلم أن كرسيه للأبد، فلمَ الاهتمام؟.  ولقد سألهم أحدهم "لماذا لا يوجد انتخابات؟"، كان الجواب "خوفاً من أن ينجح بعض الغلاة".  لقد خوف القذافي شعبه بأنه إذا ذهب هو فسيأتي الغلاة.  فديكتاتوريات العالم تبحث عن عدو تخوف به شعبها حتى يبقوا على كرسي السلطنة، فهذا أسلوب ماكر استخدم على مدى التاريخ.  فالإنسان الخائف من غموض المستقبل قد يسكت على مضض على فساد الحاضر.

إن إدارة المال تحتاج إلى عقلية معينة تحفظها وتنميها، كما قال يوسف عليه السلام للملك }قَالَ ٱجْعَلْنِى عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلْأَرْضِ، إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌۭ{ يوسف:55، وفي المثل العامي "خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود".  وكذلك إدارة البلاد تحتاج إلى عقلية معينة تصونها وتحفظ حدودها، وترفع شعبها إلى مستوى رفيع يقارع شعوب العالم.  إذا كان التصويت لا يجوز، فهذا معناه أنه لا يجوز التدخل في السياسة، فكيف طلب النبي يوسف من الملك ليجعله مديرا لاقتصاد البلد؟

إن الانتقال المفاجئ إلى نظام حياة جديدة قد يكون له ردة فعل لا يحمد عقباها.  ففي فيلم شاشانك Shawshank خرج أحد السجناء من السجن بعد أن قضى زمناً طويلاً فيه وشاب رأسه، فلم يدرِ ماذا يفعل ليستمر في نظام حياته الجديدة، فهو غير متمرن على نظام الوسط الجديد، فكل ما يعلمه هو حياة السجون وسماع الأوامر، فعلق مشنقته بعد أيام.  فقبل الخروج من السجن يحتاج الإنسان لفترة نقاهة يتدرب بها على حياته الجديدة، ومساعدة من الأخرين تمهد له الطريق الجديد.  فكثير من الناس الذين يخرجون من السجون يتشردون في الشوارع فيضطرون إلى ارتكاب الجرائم ليعودوا إلى السجون مرة أخرى حيث الطعام والشراب والمأوى.  وكذلك فإن انتقال الشعوب المقهورة إلى نظام الديمقراطية لا يحتاج إلى فتاوي بل إلى فترة نقاهة وتدريب على النظام الجديد.

عندما بدأ تحرير الزنوج في أمريكا فإن أكثرهم آثر العمل عند سيده مقابل الطعام والشراب واللباس والمأوى، لأنهم لم يستطيعوا التصرف في شؤون نظام الحياة الجديدة، بل أكثرهم لم يرَ نقودا في حياته ولم يدرِ كيف تستخدم.

وأول رئيس لبلد انتقل نظامه إلى الديمقراطية بشكل مفاجئ في وقتنا الحاضر، وجد صعوبة في إدارة البلاد عن طريق التفاوض والحوار مع الأحزاب المعارضة له، فأصدر قانوناً يعطيه سلطة مطلقة، وحجته في ذلك أن هذا القانون هو مرحلة مؤقتة حتى يستطيع نقل البلاد إلى النظام الديمقراطي الجديد.  هذا معناه أن عقله لم يتحرر بعد من ديكتاتورية الماضي، فلم يستطع الحكم إلا من خلال أن ينصب نفسه حاكماً مطلقاً آمراً ناهياً لأنه لم يعرف كيف يحاور معارضيه، هذا إن كانت نيته سليمة.  وإن كانت نيته سيئة، فهذا معناه أنه يريد أن يجلب الحكم المطلق لنفسه ولحزبه إلى الأبد }قَالُوا۟ بَلْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا كَذَ‌ٰلِكَ يَفْعَلُونَ{ الشعراء:74.

فالانتقال المفاجئ للحرية والديمقراطية ليس ضماناً لها، فلا بد من تحرير العقول من ترسبات العبودية من خلال مرحلة انتقالية قد تأخذ فترة طويلة.